الصين إمبراطورية جديدة، لأنّها نجحت أولاً في التجارة من دون حرب، ولأنّ موروثها الثقافي ثانياً بعيد من فرض “العمل العبودي” على أمم أخرى، مع التأكيد أنّ ثقافة الكدّ في العمل حاضرة في الموروث الصيني بقوة.

 

 

منذ الصعود الصيني الكبير في مجالات الاستثمار في الاقتصاد العالمي، لم يتوقف الإعلام الغربي عن بثّ صور عمال آسيويين يعملون أكثر من 90 ساعة في المصانع “الصينية” (أو التابعة للشركات الأوروبية والأميركية في الأساس)، ولم يتوقف عن تعميم أخبار عن انتحار جماعي لموظفين في إحدى المنشآت الاقتصادية.

 

لم تحضر هذه المشاهد عندما كانت الشركات الأميركية تستفيد بالحد الأقصى من اليد العاملة الرخيصة والماهرة في الصين، وقبل انضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية ودخولها مشهد النظام الاقتصادي العالمي بقوة. وقد تجنب الإعلام الحديث عن أوضاع العمالة الآسيوية في الخليج وهي تدفن تحت أطنان الإسمنت المسلح لبناء الأبراج العالية والمساكن المرفهة.

 

بين الصين والولايات المتحدة.. القيمة الأسمى في الاقتصاد

 

“لا تراهن على نزعة الخير عند بائع اللحم أو بائع الخضار. راهن على حرصه على مصلحته الخاصة”. كانت تلك الصرخة النظرية المحكمة الأولى التي أطلقها آدم سميث في القرن الثامن عشر، تأسيساً لمبدأ الليبرالية الاقتصادية.

راهن سميث على أن يكون الحرص الفردي في الربح والكسب محرك الاقتصاد، وأن يكون القيمة الاقتصادية العليا. وبذلك، تتحرك اليد الخفية ليعمل الاقتصاد من دون تدخل الدولة، إنما بحركة الأفراد في البحث عن مصالحهم. وهكذا، تلتقي الرغبات المبعثرة لبناء العمليات الاقتصادية.

 

بتعديلات ليست قليلة، تبنّت الإمبراطورية الأميركية نظرية سميث، لتكون القيم الاقتصادية العليا هي:

1. الانطلاق من المصلحة الشخصية للفرد، وبعدها ينمو السوق والاقتصاد.

2. إدانة دور الدولة في الاقتصاد، وعزلها ساحات الأمن والجيش فقط، وهو ما عبّر عنه ميلتون فرسدمان بدقة: “لو طلبنا من الحكومات الاستثمار في الصحراء، لاشتكت من نقص في الرمال”.

3. “اعمل أكثر لتشتري أكثر”، في اعتبار الاستهلاك المفرط واستنزاف الموارد الوجه السعيد للاقتصاد.

 

إذا كان مثلث الربح الشخصي واستبعاد الدولة والاستهلاك المفرط واستنزاف الموارد هو المشكّل للقيمة الاقتصادية العليا في الولايات المتحدة، فالحال مختلفة في الجهة الصينية. وإذا كانت النظريات الليبرالية، من سميث إلى ريكاردو وجون كينز، هي الّتي أثرت القيم الاقتصادية الغربية، فالقيم الاقتصادية الصينية تأثرت بمزيج من الكونفوشية والماركسية، وحتى الطاوية:

 

1. مثل الكثير من الأدبيات الآسيوية، تعطي الثقافة الصينية اهتماماً كبيراً أثناء العمل للتفاعل مع الطبيعة، فالطاوية مثلاً اعتبرت الطبيعة مسيطراً أساسياً على الإنسان، ورأت أن عليه أن يسير في طريق “الطاو” الذي لا يعارضها، في حين أعادت الكونفوشية الاعتبار إلى الإنسان ودوره في العمل ودور الأسرة كوحدة اقتصادية، وجاءت بعدها الماركسية لتثبت أنماط عمل قائمة على مبدأ الاشتراكية.

المهم هنا أنّ هذا المزيج الثقافي أنتج قيمة اقتصادية عليا مختلفة عن الربح كأساس أو “اعمل أكثر لتشتري أكثر”، إنما اعتبار العمل عملية توليد وإنتاج لموجودات الطبيعة والتفاعل الحيّ معها.

 

2. إذا كانت تلبية الاحتياجات، بما فيها الحاجات الأساسية من المسكن والمأكل والملبس، غاية أساسية في الاقتصاد الغربي، فهي في المنظور الآسيوي شرط مسبق للحياة، وليست الحياة نفسها. ولعل هذا المبدأ تحديداً يفسر سبب استهلاك الصينيين والهنود أقل من نظرائهم الغربيين، حتى عندما يمتلكون المال اللازم للاستهلاك.

 

3. على عكس الحالة الغربية، فالدولة حاضرة بقوة في الاقتصاد، وهو ما منع ولادة فئة رجال أعمال تستبد بمفاصل العمل السياسي للدولة. لم يكن بإمكان جاك ما (مؤسس علي بابا) أن يكون شبيهاً بخضروكوفسكي في روسيا في التسعينيات، ولا شبيهاً بأوليغارشيا التكنولوجيا الحديثة في الولايات المتحدة، مثل إيلون ماسك أو جيف بيزوس.

عندما نشر بايدن تغريدة عن ضرورة إدارة التضخّم وخفض أسعار المحروقات، ردّ عليه جيف بيزوس متّهماً إياه بعدم معرفة ميكانيزمات السوق. لا يجرؤ جاك ما على خطوة مماثلة في الشرق الصيني مع شي جين بينغ، مع الانتباه طبعاً إلى ولادة فئة بيروقراطية صينية قوية، يتحدث عدد من الدراسات عن قلق بعض كوادرها من دخول لعبة الفساد.

 

4. أبطلت التجربة الصينية عنوان “الاستثمار الحكومي الفاشل في رمال الصحراء”، وأثبتت أنّ ثمة دوراً أساسياً للدولة في العملية الاقتصادية، ولا يمكن اختصارها بالأمن والجيش. تتحرك الشركات الكبرى في الصين، مثل هواوي أو “ZTE”، تحت مظلة الدولة، وأحياناً كثيرة مع توجيهاتها الاقتصادية المخططة مركزياً.

 

العمل الذكي والعمل المجهد

 

ربما أكثر ما يعني الناس بشأن الفرق بين الصين والولايات المتحدة في ثقافة العمل، هو القلق من نموذج “الكد في العمل” المتغلغل في الثقافة الصينية، ومدى انعكاس ذلك على حياة الناس وأنماطهم التي اعتادوها. يحاول الإعلام الغربي تعميق هذه الصورة الذهنية، لتصل رسالة مفادها: “عصر العبودية الحديث سيبدأ بعدنا!”.

 

يكمن الفرق الأساسي في ثقافتي العمل الصينية والأميركية في الفرق بينهما في القيمة الاقتصادية العليا. عندما تعلي الثقافة الغربية من الربح كقيمة عظمى، يصبح العمل الذكي (smart work) خياراً لائقاً للمستثمرين والموظفين الباحثين عن المزيد من الترقية، وباقي العاملين عليهم الالتزام بقاعدة العمل المجهد (Hard work)، لا لشيء إلا لأن القيمة الاقتصادية الغربية تعتبر الملبس والمسكن غاية، وليست شرطاً مسبقاً للحياة على طريقة النموذج الآسيوي.

 

في الحالة الصينية، إن إستراتيجية الكدّ في العمل حاضرة بقوة. وكثيراً ما تقلق الشعوب الأخرى من طغيانها على ثقافاتهم الخاصة في العمل وأنماطهم الأقل كدّاً، وتبدو عوامل القلق هذه مضخّمة لعدة أسباب منها:

 

1. في واحدةٍ من مبادئ الدبلوماسية الصينية، الصين ليست مهتمة بتغيير ثقافات الشعوب الأخرى، وهي تاريخياً مشغولة بالحفاظ على ثقافتها أكثر من تغيير ثقافات الآخرين، ومن ذلك ثقافة العمل، فإذا كانت إستراتيجية الكد في العمل في صلب الثقافة الصينية، فهي ليست كذلك في المجتمعات العربية مثلاً، وليست هناك بوادر نيّات صينية لإعادة إنتاج السيناريو الأميركي الذي فرض أنماطه المعيشية على باقي المجتمعات. ومن المهم الالتفات إلى الأنظمة الداخلية للشركات الصينية العاملة خارج الحدود، والتي انسجمت مع قوانين العمل في البلدان الموجودة فيها.

 

2. تأثرت الشركات الصينية في سياق انخراطها في السوق العالمي بالأنماط الجديدة للعمل، وباتت تتقبل أنماطاً كانت غريبة عليها في السابق، مثل المتعاونين والعاملين من بعد وساعات العمل المرنة (Freelancer, mobile workers, flexible working hours) ، حتى إنها غيّرت بعض أنماط العمل من عام 996 إلى عام 1075، أي غيرت دوام العمل الذي يبدأ من الساعة التاسعة إلى التاسعة لمدة 6 أيام أسبوعياً إلى دوام يبدأ عند العاشرة إلى السابعة مساء لمدة 5 أيام.

حدث ذلك في قطاعات حساسة تتطلّب فترات عمل لساعات طويلة من الموظف الواحد. كما أن نظام العمل داخل الصين يتكرَّس لـ40 ساعة أسبوعياً، مع ولادة طبقة وسطى تحظى بامتيازات تنافس نظيراتها في أوروبا.

 

كيف تصنع القيمة الاقتصادية الحرب؟

 

إذا كانت الولايات المتحدة شاركت في الحرب العالمية الثانية لتدمير الاقتصادات الصاعدة، مثل اليابان وألمانيا، واحتوائها، وإذا شنّت حرب الخليج الثانية لتأمين الطاقة، وإذا كانت نظرية “اقتصاد الكوارث” قد طبقت في العراق (تدمير أبراج الاتصالات للتعاقد على بناء أبراج جديدة، وتدمير الأبنية للتعاقد على بناء مساكن جديدة…) ، فهي بذلك تتبع القيمة العليا للاقتصاد، أي الربح؛ الربح الذي يستحق حرباً.

 

في الحالة الصينية، ومن دون نفي المصالح التجارية للدولة، وهذا أمر طبيعي، فإنّ الربح في الحالة الصينية لا يشعل حرباً. ومن الإشارات إلى ذلك:

 

1. تركّز الصين في خطابها على شعار “التنمية”، وليس “الربح”، باعتبارها قيمة اقتصادية علياً.

 

2. تركّز الصين على أن تكون هذه التنمية سلمية، وهي بذلك تدرك أهمية تعديل عنوان تطورها من “الصعود السلمي” إلى “التنمية السلمية”، في رسالة واضحة إلى العالم بأن التطور الصيني لن يكون على حساب الأمم الأخرى. وبمعنى آخر، لن يكون مقترناً بمبدأ الحرب.

 

3. لم تلجأ الصين إلى الحلول العسكرية في الأزمات السياسية والإستراتيجية، ما يجعل احتمالات لجوئها إليها لفرض تفاهمات اقتصادية أمراً مستبعداً، فالدولة التي تمكنت من استعادة هونغ كونغ من البريطانيين، وماكاو من البرتغاليين، من دون حرب، وتسعى لفعل الأمر نفسه مع تايوان، من المستبعد أن تخوض حرباً لإبرام عقد تجاري.

الصين إمبراطورية جديدة، لأنها نجحت أولاً في التجارة من دون حرب، ولأنّ موروثها الثقافي ثانياً بعيد من فرض “العمل العبودي” على أمم أخرى، مع التأكيد أن ثقافة الكدّ في العمل حاضرة في الموروث الصيني بقوة. وثالثاً، لأنّ النزعة الحربية غائبة عن تاريخها، إلا في حالات الدفاع عن الأرض. وتبقى الأرقام دليلاً كافياً لتأكيد هذا المسار.

بقلم: محمد فرج