جرت بعد الحرب العالمية الثانية عملية جذريّة في محاولة لإعادة صياغة النظام العالمي في أجواء الحرب الباردة. لكن بعد سقوط الاتحاد السوفياتي وتمزّقه، اتّخذت لعبة الأمم توجّهاً جديداً في ضوء اتّساع رقعة العولمة.

وبعد أحداث 11 أيلول 2001 في نيويورك وواشنطن، جرى التحوّل إلى مواجهة واقع جديد يتمثّل بالإرهاب. ثمّ انتقل الإرهاب من عنوان “القاعدة” إلى عنوان “داعش”. وفي العنوانين كان الإسلام هو الضحيّة التي ارتُكِبت الجرائم الإرهابية باسمها، وتمحورت لعبة الأمم حولها.

بعد القضاء على الإرهاب، طرأ عامل جديد فرض صياغة جديدة للعبة الأمم. تمثّل هذا العامل في انكفاء الولايات المتحدة على ذاتها، وتخلّيها عن أيّ دور مباشر وفعّال على المسرح العالمي طوال سنوات الرئيس دونالد ترامب الأربع الماضية. ويمكن تلخيص هذا العامل في شعار الرئيس ترامب: “أميركا أوّلاً”.

لم تتراجع القوّة العسكرية للولايات المتحدة، ولا تراجعت قوّتها الاقتصادية، بل على العكس ازدادت هاتان القوّتان معاً. ولكنّ ذلك ترافق مع تراجع دورها على المسرح العالمي بقرار ذاتي تمثّل في الانسحاب ممّا كان يُعتبَر “مسؤوليّات” دوليّة.

كانت أوروبا الغربية، مثلاً، تحتلّ في الاستراتيجية الأميركية موقع الحليف الاستراتيجي. إلا أنّ العلاقات الأميركية – الأوروبية انتقلت من “مشروع مارشال” الأميركي لدعم الاقتصاد الأوروبي بعد الحرب العالمية الثانية إلى “مشروع ترامب” الذي قام على فرض قيود ورسوم على الصادرات الأوروبية إلى الولايات المتحدة، حتى إنّه قاطع بعضها.

ويعبّر الموقف الألماني، الذي أعلنته المستشارة أنجيلا ميركل، عن الحقيقة السياسية الجديدة، ويتضمّن دعوةً للدول الأوروبية إلى الاعتماد على نفسها، أي إسقاط مبدأ الاعتماد على الولايات المتحدة. وقد ذهب وزير خارجيّة ألمانيا السابق سيغمار غبريال إلى حدّ القول إنّ “أهمّ ما يواجهه العالم الغربي اليوم، والعالم كلّه، هو انسحاب الرئيس دونالد ترامب من الدور الذي كانت تقوم به الولايات المتحدة، والذي كان يوفِّر الضمانات للتعدّدية في المجتمعات الغربية والعالمية”.

حتى إنّ حلف شمال الأطلسي، الذي يُعتبر العمود الفقري للعلاقات الأميركية – الأوروبية، بدأ يتصدّع تحت ضربات الرئيس ترامب وتهديداته التي لم تتوقّف. فقد ردّد مراراً أنّه ليس من مصلحة الولايات المتحدة أن تتحمّل عبء تمويل هذا الحلف فيما تتخلّى الدول الأوروبية عن مسؤوليّاتها اتّجاهه.

يبدو بوضوح أنّ ثمة قوّتين تتحركان في اتجاهين متعاكسين: قوة الولايات المتحدة التي تتحرّك باتجاه التخلّي عن الدور، وقوة الصين التي تتحرّك باتجاه البحث عن دور

وتزامن هذا الانكفاء الأميركي المتسارع، مع الاقتحام الصيني للمسرح الدولي، فأدّى إلى تغيير موازين القوى في شرق آسيا، الذي تتسارع خطاه إلى غربها، وإلى إفريقيا، وحتى إلى أميركا اللاتينية.

في المؤتمر العامّ التاسع عشر للحزب الشيوعي الصيني، قال الرئيس شي جينبينغ إنّ “موقع الصين العالمي قد ارتفع كما لم يرتفع في أيّ وقت سابق”. وأعلن بداية أو ولادة عصر جديد تقترب فيه الصين من تبوُّؤ مركز الصدارة في العالم، وتساهم في تقدّم الإنسانية. وذهب إلى أبعد من ذلك عندما أعلن أنّ “الصين ستكون قريباً الضامن الأساس للتجارة العالمية”، وهو الدور الذي كانت تقوم به الولايات المتحدة، والذي تخلّت عنه طوعاً بقرار من الرئيس السابق ترامب نفسه.

من خلال ذلك يبدو بوضوح أنّ ثمة قوّتين تتحركان في اتجاهين متعاكسين: قوة الولايات المتحدة التي تتحرّك باتجاه التخلّي عن الدور، وقوة الصين التي تتحرّك باتجاه البحث عن دور.

فأيّ نظام عالمي ستفرزه هذه المتغيّرات؟

في المرحلة الحالية التي يمرّ بها التغيير في الاتجاهين، تبرز التحوّلات الخطيرة التالية:

– اتّساع سباق التسلّح بين موسكو وواشنطن مترافقاً مع تضخّم مخاطر الصراعات السياسية.

– ازدياد خطر الحروب التجارية بعد الانتكاسات التي تسبّب بها انتشار وباء كورونا (كوفيد 19)، الذي أصاب اقتصادات الولايات المتحدة وأوروبا في الصميم، فيما خرجت منه الصين وكأنّ شيئاً لم يكن.

وفي الوقت ذاته، تعكس سياسة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين منهجه المتصلّب في الردّ على العقوبات الاقتصادية التي تعانيها بلاده، وتقوم هذه السياسة على تصعيد استعدادات روسيا العسكرية، ومن بينها النووية والصاروخية الحديثة والمتطوّرة. ويفاخر بوتين بسلاح جديد أُضيف إلى ترسانته العسكرية، وهو عبارة عن صاروخ عابر للقارات لا يمكن لأجهزة الرصد رؤيته أو التصدّي له.

كما في الطبيعة، كذلك في السياسة. لا مكان للفراغ. فانكفاء الولايات المتحدة طوال سنوات الرئيس ترامب الأربع شجّع قوى دولية أخرى على المبادرة إلى ملء الفراغ. والفراغ السياسي هنا ليس نتيجة التراجع الذاتي للدور الأميركي فقط، بل ونتيجة تنامي أدوار الآخرين وتضخّم طموحاتهم.

إقرأ أيضاً: هل الحرب حتميّة بين الولايات المتّحدة والصين؟قبل انتخاب الرئيس الأميركي الجديد جو بايدن كان السؤال: هل بدأ النظام العالمي مرحلة ما بعد أميركا؟ ولكن بعد انتخابه أصبح السؤال: كيف ستواجه الولايات المتحدة المرحلة الجديدة؟ وكيف ستتكيّف مع مستلزماتها؟ وفي ضوء أيّ نظام؟

المصدر : اضغط هنا