الصين هي الصورة التي رسّخت إمتداد الأنظمة الشمولية حول العالم بكل أشكالها وأساليبها”. هكذا عرف معظم اللبنانيين الصين عبر سنوات من الزمن من خلال ما نُقل إليهم عبر وسائل الإعلام التقليدية سابقا، وما حضنته من حملات تسويقية لسلع وخدمات وافدة من الصين، وصولا الى الصورة الأكثر تشعبا مع دخول العالم عصر الإنترنت ومواقع التواصل الإجتماعي.

ضَمَن هذا التحول في واقع الإعلام، كسرَ الصورة النمطية التي كانت سائدة عن الصين ودورها في لبنان، سواء على المستوى الإقتصادي أو الثقافي، وصولا الى المستوى السياسي وحتّى العسكري.

وتبدّدت صورة الصين في أعين اللبنانيين شيئا فشيئا مع إخضاع لبنان الى المعسكر الأميركي وما يمثّله في المنطقة؛ إلّا أنّ دخول معسكرات جديدة إلى منطقة الشرق الأوسط، بخاصة في السنوات العشر الأخيرة، دفع إلى بروز عدد من وسائل الإعلام الجديدة، بدأت بدورها بفتح المجال أمام كسر الصورة المحفورة في أذهان اللبنانيين عن الصين ودورها المتوقع في نهضة لبنان الذي يرزح تحت وطأة وضع غير مستقر منذ عقود حتى يومنا هذا.

فكيف هي صورة الصين اليوم في الإعلام اللبناني؟ وكيف هي صورة لبنان في الإعلام الصيني؟ من المسؤول عن هاتين الصورتين؟ أيّ نتائج تترتّب عنهما؟ وأي صين يريدها فعلا اللبنانيون عبر وسائل إعلامهم؟

الصين في الإعلام اللبناني

ربطت وسائل الإعلام اللبنانية غير الرسمية، من دون تعميم طبعا، الصين بالسياسات اللبنانية الداخلية، وما يدور من صراع بينها. وأمعنت هذه الوسائل بإظهار الصين وكأنّها طرف خفي في حرب سياسية داخلية، ألصقت بها التهم إلى حدّ الهجوم عليها في بعض البرامج، والإفتراء على صعيد المعلومات المدسوسة على هوائها.

وعُرفت الصين أيضا في مقدّمات نشرات أخبار بعض محطات التلفزة على أنّها الحليف الإستراتيجي لفريق 8 آذار سابقا، ولحزب الله والمشروع الإيراني في لبنان حاليا. وهنا لا بدّ أن أؤكّد، ومن خلال خبرتي المتواضعة في المجال الإعلامي، والذي كان لي فيه العديد من المحطات مع مختصين في الشؤون الصينية، أنّ الصين هي أكبر من حزب أو طرف لبناني، وهي على مسافة واحدة من جميع الأطراف. لكن ما يجري، هو أنّ بعض الأطراف السياسية في لبنان تستميت في تصوير الصين على أنّها “المخلّص” للبنان بالأقوال لا بالأفعال كما تجري العادة في لبنان، ما يدفع الطرف الآخر الى المجابهة والمواجهة عبر الإعلام أوّلا، من دون أن يكون للصين أيّ دور فعلي في هذه المعارك الإعلامية.

وفي هذا الإطار، إنّ إلباس الصين ثوب “المحور الإيراني” في الإعلام اللبناني، جاء مع تعاظم الصراع الخليجي الإيراني في المنطقة عموما وفي لبنان خصوصا. فربط العديد من المحلّلين والصحافيين مطالبة أطراف سياسية لا سيّما حزب الله بالإستعانة بإيران والصين، للخروج من الأزمة اللبنانية، بأنّ الصين هي ضمن المحور الإيراني. وهنا خرجت تسمية “التوجه شرقا”، ولو أنّ مفهومها ضبابي وغير واضح.

فلطالما كانت الودائع الخليجية تغزو الإقتصاد اللبناني عبر سنوات طويلة، وأليست الخليج جغرافيا هي في شرق لبنان؟ أليس التوجه نحو الخليج واليوم تحديدا في ظلّ الحملات اللبنانية لإسترضاء السعودية هو ضمن إطار “التوجه شرقا”؟ وإذا كان المقصود بالشرق والغرب هو طرح معادلة سياسية عالمية على غرار “اليمين” و”اليسار”، ليعطينا أحد مثالا واحدا عن تدخّل الصين في الشأن اللبناني الداخلي؟

وما عزّز الإنقسام حول صورة الصين في الإعلام اللبناني هو الأسلوب المتّبع، سواء كان الإعلام المدافع أو المعارض. فتلجأ كلّ قناة إلى إستضافة محلّلين وصحافيين ومتخصّصين بالشؤون الدولية والإقتصادية، كل بحسب أهوائه وسياساته، وكلّنا نعلم واقع الإعلام المسيّس في لبنان. فغابت الموضوعية، والشفافية، وتعدّد الآراء، والمناظرات القيّمة.

وإنعكس هذا الأمر سلبا على الرأي العام اللبناني، إذ بات يخاف من البضائع الصينية، وباتت الشركات اللبنانية تخاف من التوجه للتعاون مع الصين، وحتى باتت الدولة خائفة من فتح مجال الإستثمار أمام الشركات الصينية في لبنان. وصوّرت وسائل الإعلام المعارضة للتعاون مع الصين على أنّها تسونامي سيجرف مؤسّسات الدولة، وتقاليد المجتمع اللبناني، وسيفرض ثقافة غريبة ودخيلة على الثقافة اللبنانية، وبديلا للثقافة الفرانكوفونية، والأنغلوفونية السائدة.

وفي حين أن هذا القسم من الإعلام صوّر الصين على أنّها ستأخذ كل شيء من اللبنانيين، نجد الصين من جهة أخرى، تزوّد اللبنانيين بما أتيح لها بمعدّات ومساعدات لمواجهة كورونا؛ ونجدها أيضا متبنّية لبناء الكونسرفتوار الوطني اللبناني من دون أيّ مقابل.

وحتى في الإعلام الدولي المؤثر في لبنان، فإنّ صورة الصين المشوّهة، والمبنيّة على أنّها تناهض الأقليات، عزّزت معادلة الشرق والغرب في إطار الصراع الكوني على زعامة الإقتصاد العالمي مع الولايات المتحدة الأميركية.

وما زاد الطين بلّة، هو فيروس كورونا الذي نشأ في ووهان الصينية، وما أشيع عبر هذه الوسائل بأنّ الصين هي التي تسبّبت بقصد بهذه الجائحة المعاصرة، وما رافقها من أزمات إقتصادية وإجتماعية، وسياسية وحتّى نفسية. وفي العودة إلى أسباب إنتشار هذا الفيروس، والذي لم يتمكّن أحد بعد من الجزم بها، إلا أنّ الأكثر شيوعا طوال السنتين الأخيرتين هو أنّ الفيروس أتى بعد أن أكل مواطن صيني وطواطا، الأمر الذي هزّ صورة الصين بشكل إضافي في لبنان، وللأسف طالت هذه الحملات الشعب الصيني وثقافته، وبات “الصينيون يأكلون ما يشاؤون من حيوانات” في نظر بعض اللبنانيين.

والخطأ الأكبر في الإعلام اللبناني يقع على عاتق وسائل الإعلام التي تدعم التعاون بين لبنان والصين. فقد ربطت غالبيتها أهمية الصين في لبنان بسياساتها الحزبية الواضحة، ناهيك عن ضعف التسويق، والإستراتيجيات الإعلامية، لأهمية الصين الحقيقية بالنسبة للبنان، والمتمثّلة بالإستفادة من مشروع “طريق الحرير”. وهنا لا بدّ أن نسأل: مَن مِن اللبنانيين يعرف ما هو طريق الحرير؟ مَن يعرف أي أهمية يشكّله هذا المشروع للبنان؟ مَن يعرف ما الذي يمكن للصين أن تقدّمه للبنان على المستوى الإقتصادي؟ كم لبناني يعرف أنّ المشاريع الصينية العملاقة موجودة في إسرائيل والإمارات كما العراق وإيران، وغيرها من الدول المحيطة بنا؟ (دائما من دون تعميم) وهذا كلّه ولم نجد من يتحدث مثلا في اتجاه الامارات شرقا، أو من حذّر من خطورة هذه الاستثمارات على النموذج الاقتصادي اللبناني.

لبنان في الإعلام الصيني

بالمقابل، يُركّز الإعلام الصيني على صورة لبنان الثقافية والتاريخية في أغلب تقاريره التي تبثّ عبر شاشات التلفزة الصينية ومنها الناطقة بالعربية.

ومن المطبخ اللبناني فالتاريخ والفنون على أنواعها، إلى المعالم الأثرية، تهتمّ الصين عبر وسائل إعلامها في تغطية معظم النشاطات الثقافية التي تحصل في لبنان، ولا تولي إهتماما في الشؤون السياسية الداخلية للبنان، ولا تتدخّل أبدا في تأجيج أيّ صراع داخلي بين الأطراف اللبنانية السياسية.

والسؤال الذي يطرح نفسه: لماذا لا يستفيد لبنان من فتح الآفاق ووضع الإستراتيجيات التسويقية للسياحة الخارجية، بينما الصين تقدّم له مجانيا جزءا لا بأس به من الدعاية التي يحتاج إليها؟ وبينما الكثافة السكانية الصينية هدف لمعظم الدول الساعية للترويج لسياحتها ومرافقها السياحية؟ لماذا لا يضع لبنان خطة واضحة لدعم الشركات اللبنانية في المعارض الصينية الدولية على غرار معرض “شنغهاي” الدولي للإستيراد؟

يبقى هذا الموضوع كما يقول الصينيون، ومعه كل المشاريع التي يمكن أن يستفيد منها لبنان بحاجة الى قرار لبناني؛ إلى قرار فقط.

لمتابعة أجزاء السلسلة: اضغط هنا