ا يستوي الكلام على الصداقة بين لبنان والصين، بمنأى من متاخمة الخصائص الحضارية التي تشكل ماهية وهوية كل من هاتين الدائرتين اللتين تنتميان إلى فضاء الشرق. وإذ ننطلق من هذا الفضاء فلكي نستظهر القواعد المفترضة التي تقوم عليها الصداقة بما هي جوهر حضاري وإنساني، لا مجرد صلات وصل انتفاعية تزول بزوال المصالح الآنية، والقوانين المتغيِّرة في العلاقات الدولية.

وما دمنا في حقل الحديث عن الإحتفائية الخمسين لبدء العلاقات الرسمية بين لبنان والصين، فإن توسيع الأفق من أجل معاينة الأبعاد الحضارية الجامعة بينهما،هو أمرٌ في غاية الأهمية، وخصوصًا لجهة إستكشاف المكامن العميقة لتلك الأبعاد. وما من شكٍ أن الصداقات الحقَّة والدائمة تكتسب حقَّانيتها وديمومتها من مشتركها الحضاري ووحدتها الروحية. ونحن اللبنانيين حين نتطلَّع إلى صداقات حقيقية وراسخة، ينبغي أن ننظر في ما يتعدى حسابات ومعايير المنفعة العابرة، وإنما التعرُّف إلى ماهية هذا الصديق ومدى صدقيتَه، ومعرفة ما يختزنه من قيم. وهذا هو الأمر الذي ينبغي أن يشكل محور تفكير النخب في لبنان والعالم العربي حيال أمة عريقة ومقتدرة كالأمة الصينية.

في سياق التعرُّف على ماهية الصديق الصيني، لا بدّ لي في البداية من الإشارة إلى حقيقة ينبغي أن يؤسَّس عليها أي تقييم للتجربة التاريخيّة الصينيّة. ولسوف أبدأ من الفَرَضية التي تقول بفرادة هذه التجربة وخصائصها المميزة بين الأمم المعاصرة. فلقد استطاعت أن تجمع بين المفارقات والأضداد بصورة لم تستطع الحضارة الغربيّة الحديثة أن تحقّقها. منها، على الأخص، الجمع بين مقتضيات التحديث وأصالة التراث.

لم يقطع الصينيّون مع ميراثهم الممتد في التاريخ القديم، وفي الوقت نفسه سيفلحون بدأب منقطع النظير من التواصل مع منجزات الحداثة ومواكبة روح العصر. هذا ما لم يحدث في الغرب الأوروبي حيث تمت القطيعة شبه المطلقة، وبصورة تراجيدية بين الحداثة واللَّاهوت تحت مدَّعى التنوير وتشييد حضارة العقل. ميزة الصين أنّها شقّت مسارها الحضاري على مبدأ الوحدة بين القديم والحديث، ومن خلال الانسجام والتناغم بين كل العناصر المكوِّنة لروح الأمّة وتاريخها.

ومن يقرأ التراث الصيني المكتوب قديمًا وحديثًا سوف يجد ذلك بوضوح. أعطي هنا مثلًا من الفترة المعاصرة: فقد دأب عدد من المفكّرين الصينيّين إلى إجراء دراسات مقارنة مع عدد من الحضارات وبالأخص مع اليونانيّين القدامى والأوروبيّين المعاصرين. وجدوا أن اليونانيّين اهتموا بوظائف الفكر والعقل التي أفضت إلى الحكمة الواقعيّة في سياق الفلسفة العقلانيّة وثقافة المنطق. ثمّ قاموا بالسعي نحو الحقيقة وتبريرها من خلال قوّة العقل.

أمّا الأوروبيّون في عصور الحداثة فقد ورثوا عن أسلافهم العقلانيّة، لكنّهم سيوظفونها في خدمة نزعاتهم القوميّة إلى الحد الذي سوَّغوا فيه السيطرة على الآخر وصولًا إلى تبرير حروب الإبادة الشاملة. ولم تكن الحروب الاستعماريّة التي مارستها أوروبا على امتداد القرون الماضية (الثامن عشر والتاسع عشر والعشرين) سوى دليل على عقلانيّة حادّة توظِّفُ العقلَ في خدمة مصالحها. كان الأوروبيّون مهتمّين بالسعي نحو القوّة النفعيّة والراحة التي أدّت بدورها إلى القوّة الصناعيّة والحرفيّة. ومن ثمّ عملوا على تطوير ثقافة تقديس القوّة أنَّى كانت الآثار الكارثية المترتبة على هذا التقديس. وهكذا تجسَّدت الحياة الوطنية للغرب الأوروبي والأميركي في ثلاثة أنواع مجتمعة شكّلت مع بعضها جوهر الروح الأوروبيّة وهي: الحماسة الفنيّة، والتنوير العلمي، والتناقض بين العاطفة والعقل. لكنّ هذه الروح الأوروبيّة انتهت أخيرًا إلى التموضع في ما سمّي “الروح الفاوستيّة”. أي تلك التي اتّصفت بها حضارة الغرب الأوروبي والمنسوبة إلى يوهان فاوست (1480-1540) التي باعت روحها للشيطان مقابل المكاسب الماديّة والنعيم الاستهلاكي.

الصينيّون، كان لهم مسارهم المعاكس لمَّا جمعوا بين عالَمَيْ الإنسان: المعنوي والمادي. ولقد اهتمّوا بالفهم الدقيق للطبيعة وتغيير الواقع التاريخي معًا. وتبعًا لهذا الطريق، توصّلوا إلى قاعدة حياة مثلثة الأضلاع: حكمة الواقع، وحكمة الراحة، وحكمة المساواة. ومن بعد ذلك قاموا بتطوير ثقافة البراعة والطبيعيّة، محاولين بشكل أساسي تحجيم الوهم والعودة إلى الصدق. ونتيجة لذلك تجسّدت حياتهم الوطنيّة في ثلاث شخصيّات تاريخيّة رائدة منحت شعب الصين أبعادًا روحيّة وحضاريّة وثقافيّة عظيمة، هي لاو تسو، وكونفوشيوس، وماوتسي تونغ.

إذا كان لي – على سبيل المثال – أن أختصر تجربة العولمة على الصعيد التطبيقي، فلا أجد ما يوازيها سوى “الأمركة”. صحيح ان العولمة وكما عرفها الصينيون والعرب هي حصيلة طبيعية لتطور النظام الدولي على صعيد الاقتصاد والسياسة ونظام القيم، غير ان الرأسمالية الليبرالية، بصيغتها الليبرالية الجديدة استطاعت أن تستحوذ على هذه اللحظة من تاريخ العالم المعاصر. ولمَّا كانت الولايات المتحدة هي الأرض التي احتضنت النيوليبرالية، فقد كان من الطبيعي ان تكون أميركا هي الزعيم العالمي لرأسمالية الفالته من أي قيد. الهم الأكبر بالنسبة للولايات المتّحدة هو دائمًا في إعادة تشكيل العالم كلّه وفقًا لمصالحها وقيمها الثقافية مهما كانت الأثمان المترتبة على ذلك. الانعكاسات السلبيّة والخطيرة لا تتوقف على الاقتصاد العالمي فقط، وإنّما على نظام القيم كلّه. ومع أن أميركا ومن ورائها الغرب الأوروبي كله، ادّعت خطابًا تنويريًّا، وزعمت بناء فلسفتها السياسيّة على قيم التنوير، إلّا أنّها مارست

سلوكًا مغايرًا يقوم على المصالح الذاتيّة المجرّدة من أخلاقيّات ومبادئ الدولة الحديثة. لقد انقلبت أميركا منذ تأسيسها على فلسفة التنوير في العلاقات الدوليّة. وخلافًا للرأي القائل بضرورة إعادة تأسيس الدولة على مبادئ أخلاقيّة، وهو ما تدعو إليه الإطار الفلسفي الصيني، ظلّ التفكير الغربي -الأميركي على وجه التحديد- مشدودًا إلى جاذبيّة السيطرة على الغير سياسيًّا واقتصاديًّا وقيميًّا. أمّا سبب ذلك فيعود إلى إن الثقافة التاريخيّة في الغرب تأسّست على عقيدة التفوّق والغلبة.

مثل هذا السياق لم يأتِ فقط من غريزة السيطرة لدى أمبرياليات الغرب الحديث، فهو يمتد إلى الذهنية المؤسسة للحضارة الغربية التي تنظر إلى نفسها بوصف كونها الحضارة الأخيرة والمطلقة في تاريخ البشرية. في فلسفة القرن التاسع عشر يوجد من الشواهد ما يعرب عن الكثير من الشكّ بحقّانية الحداثة ومشروعيّتها الحضاريّة. لكنّ هذه الشواهد ظلّت غير مرئيّة بسبب من حجبها أو احتجابها في أقل تقدير. ولذلك فهي لم تترك أثرًا في عجلة التاريخ الأوروبي. فلقد بدا من صريح الصورة أن التساؤلات النقديّة التي أُنجزت في النصف الأوّل من القرن العشرين، وعلى الرغم من أنّها شكّكت في مطلقيّة الحضارة الغربيّة وديمومتها، إلّا أنّها على الإجمال من أيّ إشارة إلى الحضارات الأخرى المنافسة للحضارة الغربيّة.

حتّى أنّ تويبني وشبينغلر حين أعلنا عن اقتراب أجلِ التاريخ الغربيّ وموته، لم يتكلّما عن حضارةٍ أو حضاراتٍ في مواجهة الحضارة الغربيّة، ولم يكن بإمكانهما بحث موضوع الموجود الحضاري الآخر. ففي نظرهما لا وجود إلا لحضارة واحد حيّة ناشطة هي حضارة الغرب، وأمّا الحضارات الأخرى فهي ميتةٌ وخامدةٌ وساكنةٌ… ولأن الأحاديّة الغربيّة الاستعلائيّة مشحونةٌ بالخوف على الذات من الآخر إلى هذا الحد، فلن تكون في مثل هذه الحال سوى إعراب بيِّن عن ظاهرة هيستيريّة لا تقوم قيامتها إلا بمحو الآخر أو إفنائه. سواء كان محوًا رمزيًّا، أو عبر حروب إبادة للغير لا هوادة فيها. لذا لم تكن العولمة التي ظهرت وقائعها في نهاية القرن العشرين سوى خلاصة طبيعية لهذا المسار.

ذاك ما أدركه الصينيون بعمق وهم يقيمون صرح جمهوريتهم الجديدة في القرن العشرين المنصرم. كانوا على بيِّنة مثل نظرائهم العرب أن نزعة الهيمنة لدى الغرب تجد ما يسوُّغها في عقل الغرب وروحه، وأن التفكير العنصري هو جزء من حضارة العلم وفلسفة التنوير. والدليل على هذا بيِّنٌ وواضح: هناك جمعٌ من فلاسفة وعلماء الطبيعة في القرن الثامن عشر من كارل فون لينيه (Karl Von Linne) إلى هيغل، سوف يسهمون في وضع تصنيف هَرَمي للجماعات البشريّة على أساس الأفضل والأسوأ أو السيّد والعبد الآمر. الذي كان له الأثر الفظيع في تحويل نظريّة النشوء والارتقاء الداروينيّة على سبيل المثال إلى فلسفة عنصريّة في مطالع القرن الحادي والعشرين.

أمّا أحد أكثر تصنيفات المجتمعات الإنسانيّة ديمومة، والتي تمتدّ جذورها إلى اليوم، فهي ما تمثله ملحمة الاستشراق التي لم تشأ أن ترى إلى الشرق وحضاراته العظيمة سوى موجودات مشوبة بالنقص، أو كحقل خصيب لاختباراتها وقسوة أحكامها. وما من شك أن هذا النوع من التفكير الاستعلائي هو الذي أسس للثقافة الاستعمارية في القرون السابقة وهو الآن يشكل الأساس الذي قامت عليه العولمة بصيغتها الأميركية. في هذا الصدد لا بدّ من التساؤل هنا.

عمّا إذا كان التغيير البنيوي للنظام العالمي بسبب صعود الصين، والاختلاف الحضاري بين القوتين الدوليتين سيؤدّي إلى نشوب حرب بينهما؟ بالنسبة لي أستبعد ذلك لأن القوّتين العظميين تدركان حجم الأهوال الاقتصاديّة والأمنيّة التي ستنعكس عليهما وعلى النظام الدولي عمومًا، إلا أنّ هذا لا يعني عدم حصول صدامات جزئيّة هنا أو هناك خصوصًا في بحر الصين، حيث يمكن أن تؤدّي إلى تغييرات إقليميّة جوهريّة ولا سيّما في شبه الجزيرة الكوريّة إلى مواجهة حقيقيّة بين الجبارين.

من خلال متابعاتي في استقراء مكوّنات الخصوصيّة التاريخيّة للشعب الصيني، وجدت أنّه شعب يتّصف بالمكابدة والروح العمليّة، فضلًا عن الإيمان بوطنيّته وتراثه، وثقته بنفسه. وهذا بتقديري ناتج من عراقة التقاليد الصينيّة وامتداد جذورها إلى عمق التاريخ. لعلّ الأمر المهم في هذا المجال هو أن التقليد الصيني الحديث تأسس على ثقافة رد الغزاة والتحرر من الاستعمار في موازاة التمسك بقيم التسامح والاعتراف بالآخر عدم العدوان عليه. وهو ما يدخل ضمن إطار فلسفة سياسيّة متكاملة تحفظ الذات الوطنيّة وتحفظ حقوق الآخر في الآن عينه.

أعتقد بأن هذا الإطار الفلسفي هو منهج حياة له أهميّة استثنائيّة في رسم هندسة دقيقة ومتوازنة في العلاقات الدوليّة. هذا في الوقت الذي يزال فيه التنظير الغربي والأميركي على وجه الخصوص، يحرص على الترويج لصدام الحضارات، والعمل على حل النزاعات بين الدول تبعًا لمنطق القوّة. هو المنطق والذي غالبًا ما تقوم آلياته على سياسة القوّة والرغبة في السيطرة على الغير. في المقابل قامت التجربة الصينيّة على الإقرار للآخر الحضاري بغيريّته واحترام هذه الغيريّة. ا

لأمر الذي يتحقّق عبر التناغم مع الغير من دون غلبة أو قهرية، ما يسهم بالتالي في إيجاد تكافؤ وتوازن في العلاقات الدوليّة، وتحديدًا بين الشرق والغرب. وما من ريب أن هذه القضية تشكل منطقة جاذبية في العلاقة بين الدائرتين اللبنانية والصينية في تفعيل الغيرية البنَّاءة وثقافة الاختلاف. وعليه فإن ما تختزنه الشخصية اللبنانية من إمكانات خلاَّقة في الفعل التواصلي مع الحضارات العالمية، سوف يكون لها منفسحًا رحبًا.

ذلك بأن الفعل التواصلي مع المدى الشرقي يعزِّزه المشترك القاري الآسيوي بما ينطوي عليه من أبعاد روحية وإنسانية وحضارية ولما كان لبنان كوجود محوري في بلاد الشام يشكل نقطة لقاء لحضارات الشرق والغرب، فإن العلاقة مع الصين كروح محوري في آسيا إنما يشكل تناغمًا وتكاملًا حضاريًا لا بد لمثيله ان يسود في عالمنا المعاصر.

مبدأ التكامل والتناغم في الفضاء المتعدد هو في الحقيقة عامل أساسي في تعزيز المشترك اللبناني الصيني. فإذا كان لبنان قد ابتُليَ بالطوائفية، وبسوء نخبته الحاكمة لثراء التنوع الديني والثقافي والمعرفي، فإن ثمة فائدة عظمى سوف تتحَّق في لو أحسن اللبنانيون توظيف تنوعهم في تطوير هويتهم الوطنية والمجتمعية والحضارية.

ولقد قدمت التجربة التاريخية والصينية معطيات مهمة على هذا الصعيد. مفهوم التناغم – على سبيل المثال – ليس مبدأً طارئًا على التقاليد الحضاريّة الصينيّة؛ فهو ينسجم مع قيمة جوهريّة هي قيمة الوحدة في الفكر الصيني القديم، وهو يحمل بالتالي رسالة مهمّة إلى العالم كلّه في كثير من مجالات الممارسة الإنسانيّة. كما تسهم إلى حدّ بعيد في إضفاء صفة أخلاقيّة وإنسانيّة على مفهوم راهن وأساسي كمفهوم الديمقراطيّة. حيث لا يعود هذ المفهوم مجرّد تنظيم للانتخابات والفصل بين السلطات كما يحصل في أوروبا وأميركا اليوم، وإنّما يتعدّى ذلك ليصبح أساسًا للتناغم وللتكامل الحضاري حتى داخل المجتمعات العالميّة المعاصرة.

ولو أخذنا الفلسفة السياسيّة على سبيل المثال، فإن مبدأ التناغم الإيجابي يؤدي إلى تشجيع تكوين مزيج عضوي بين الحكم بالقانون والحكم بالفضيلة وفقًا للوضع الاجتماعي والميراث الثقافي المتعارف عليه. فهو يحفظ الخلافات لكنّه يسعى إلى تكوين أرضيّة مشتركة بين هذين الحُكمين.

لا بدّ أن أضيف هنا، إن الثقافة التاريخيّة الصينيّة -كما سبق وأشرت- هي في العمق ثقافة حوار وتسامح مع الحضارات الأخرى. والحقيقة التي لم أجد في هذه الثقافة ما يدل على كونها ثقافة إقصائيّة ورافضة للآخر. الشيء اللّافت في تاريخ الصين إنّها لم تكن يومًا أمّة استعماريّة ذات أطماع بالأمم الأخرى.لم تطمح للاستيلاء على ثروات الغير. بل كل ما سعت إليه إنّها كانت ترد الغزاة وتقاوم المستعمرين لنيل استقلالها ووحدتها وكرامة شعبها.

وبالمناسبة فقد قرأت مؤخرًا كتابًا يتحدّث فيه مؤلّفه وانغ كه بينغ عن “جوهر التقاليد الصينيّة” يدعو فيه إلى إطار فلسفي جديد مستوحى من التاريخ العريق للأمّة الصينيّة. الهدف من هذا الإطار الفلسفي الجديد هو صوغ نظرة كونيّة عابرة للثقافات. وقد انتهت تأمّلات المؤلف إلى استراتيجيّة مقترحة في إطار تعدّد الثقافات واللقاء المتكافئ بين الشرق والغرب. هذه الاستراتيجيّة ترتكز بحسب المؤلف على مبدأ التناغم من دون التماثل. ويمكن تسميتها بالتناغم من دون التماثل (خه آر بو تونغ).

ونظرًا لأن العولمة تخضع لثقافات قويّة تعمل على أساس التبعية والتقولب أو النسخ، بدلًا من التناغم مع الثقافات والأشياء الأخرى ككلّ، فإن الكاتب يفضل استخدام مبدأ التناغم على نحو موازٍ مع مبدأ الوحدة في التنوّع، وذلك يجسّد العلاقة المتداخلة بين الواحد والمتعدّد. في رأيه أن مبدأ التناغم هذا تحويلي على نحو خلّاق، لأن المكوّنات المختلفة تتفاعل مع بعضها في إطار كلّي متناغم وعضوي. فهو مبدأ منفتح وشامل لدرجة أنّه يدمج مصادر جديدة في إطاره، ويضمن عمليّة طويلة الأمد ذات ديمومة وقوّة وحيويّة من أجل التنمية المستدامة.

لقد صار من البيِّن القول أن الصين احتلت اليوم مكانتها العالمية على صعيد الاقتصاد. إلا أن هذه المكانة مع اقترانها بالأبعاد العريقة للتراث الروحي والمعنوي سوف تتحول الى نموذج لدولة عالمية مميَّزة بين الحضارات الإنسانية المعاصرة. وبتكامل التجربتين الصينية واللبنانية، وفي الجمع بين الروح العملية والمكابدة واستيعاب منجزات الحداثة، أمكن لنا أن نفتح باب التفاؤل على عصر جديد من التطور الخلاَّق في مجالات الحياة كلها.

لبنان والبلاد العربية على وجه الخصوص، فضلًا عن شعوب آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، باتت تدرك الآثار المدمرة للإجتياح الذي مارسته الرأسمالية المتوحشة على مجتمعاتها. لذا فإن التناغم مع النموذج الحضاري الصيني يشكِّل بالنسبة للبنان مصدرًا للأمان والاستقرار وعاملًا مساعدًا في الحفاظ على الاستقلال الوطني الذي ظل عرضة للهيمنة على مدى أجيال طويلة.

دعوتي في المنتهى، موجهة إلى النخب الصينية واللبنانية والعربية لتفعيل وتعزيز صلات التواصل وإبرام بروتوكولات التعاون ليس فقط على صعيد التنمية والاستثمار الاقتصادي والتجاري، وإنما أيضًا وأساسًا في تعزيز روحانية الشرق في حقول المعرفة والثقافة والعلوم الإنسانية كافة..

لمن فاتته متابعة الأجزاء السابقة: