تتموضع الصين اليوم بكل ثقة وتؤدة وهدوء على الخريطة العالمية، مستندة إلى تاريخ عريق في الإبداع صنعه ،وما يزال، شعبٌ خلاق وقيادة سياسية موزونة، هادفة إلى ثلاثة أمور أساسية: السلام العالمي ، التوازن بين الدول، وازدهار الشعوب. الخطوات الجبارة للصين التي لا يمكن لعاقل تجاهلها تبدو على درجة كبيرة من الوعي الاستراتيجي لمستقبل العالم وهذا ما يمكن اختزاله بكلمة واحدة: الرؤيوية! ولن نقفز هنا عما يختزن، في الأساس، قلب الصين وهو التراث الحكموي(من حكمة) لكونفوشيوس ، بودا ، والتاوية، حيث يشكل هذا التراث الرافعة الأخلاقية للقيم المادية والمعنوية على السواء، هكذا سيبرز أمامنا الالتزام والانضباط والثقة بالنفس وغيرها من القيم العليا…
في المقابل، وعلى سبيل المقارنة مع ما تقدّم، فإن العالم العربي بجملة واحدة يبدو متخبطا في الصراعات. وعلى الرغم من الإمكانات الضخمة التي يزخر بها، بشريا وماديا، إلاّ أن هامش التخلف بقي واسعا على مختلف الصُعد باستثناء بعض الدول التي راحت تستعد لمواجهة تحديات المستقبل. وعلى الرغم أيضا من انفتاح العالم والتقدم العلمي والتكنولوجي فإن العالم العربي ظل متأخرا بسبب انشداده إلى ثقافة متديّنة متفردة بحضورها، تنهل من تراث محفوف بالخرافات عمره زاد على 1200 سنة. لا نتحدث هنا عن التراث القيَميّ للشعوب بل تحديدا على تراث “إبراهيمي” ظل كما هو حتى اللحظة ولم ينقّ من شوائبه بالغة التخلف…إلى حد أن هذا العالم العربي يبدو في الجانب الأخلاقي العملي نقيضا للصين التي، كما ورد في بداية المقال، تستند إلى ثقافة حِكْمَويّة جامعة محورها الانضباط والتحرر من الخرافات التي تعيق التقدم العلمي.
إن أخطر ما يواجه العالم العربي هو تشظي الجماعات التي تأهله على قواعد مذهبية متناحرة، تحمل التاريخ الدموي لأسلافها، وتتحدث عن التاريخ كأنه حدث بالأمس، ويبرز ذلك الخطر في أن تلك المذهبيات تفرض على الواقع مترتّبات لمعتقداتها في السياسة والاقتصاد والعلم والتربية والثقافة والفن. ومع ذلك فإن الطاقة الجبارة الكامنة لدى الشعوب العربية في الإبداع والتقدم ما تزال قادرة على التعبير عن نفسها بشرط أن تتحدد مساراتها ، كما فعلت الصين ، نحو السلام العالمي، والتوازن بين الدول، وازدهار الشعوب، وأيضا بانفتاحها وتعاونها مع شخصية عريقة في التاريخ والإبداع كالشخصية الصينية.
هل يمكن للصين أن تلعب دورا حاسما في نقلة نوعية في العالم العربي نحو التقدم؟ بكل تأكيد. فالعلاقة العربية الصينية قديمة قدم طريق الحرير، أي أن أي مشروع في الحاضر والمستقبل لن يبدأ من الصفر بل سيتكئ على حد أدنى من العلاقة والفهم المتبادل.. ولا بد من أن يستعاد طريق الحرير على أسس تراعى التقدم ومصالح جميع الشعوب المعنية.. بل إن الصين لعلها الدولة الأكثر أهلية للعب ذلك الدور لسبب واحد على الأقل: إنها غير متورطة في تلك الصراعات المذهبية إياها، وتقف على حياد مبدئي من جميع الأطراف ويعنيها بالدرجة الأولى تلك القواعد الثلاث، ولنكررها مرة أخرى: السلام العالمي ، التوازن بين الدول، وازدهار الشعوب.
إن ذلك الدور سيشمل كافة المجالات بالفعل، فالصين اليوم متقدمة في كافة المجالات دون استثناء. لكن ،شخصيا ككاتب سيناريو وكمخرج فإنني سأتطرق إلى “القوة الناعمة” التي إحدى أدواتها الدراما التلفزيونية والفيلم السينمائي.
أشير بداية أن الإنسان العربي عموما يفتقد إلى الثقافة البصرية في مقابل ميله إلى الثقافة السردية، يعود ذلك إلى تراث “الحكواتي” المترسخ من جهة ومن جهة أخرى حضور السردية في الروايات الدينية الخرافي منها تحديدا.هذا يؤدي إلى ثقافة ذاتية منغلقة حيث تنعدم الموضوعية بشكل مؤثر، إذ تغدو تلك السرديات ملكا لكل فرد يؤلبها في مخيلته كما يشاء وتتحول مصدرا للأحكام الفردية.. يحتاج العالم العربي إلى نشر الثقافة البصرية، من الفيلم والدراما حتى اللوحة التشكيلية.. لكن هل العالم العربي خال من الفيلم والدراما؟ طبعا لا. لكن نوعية الدراما المتداولة على الشاشات تخلو من المضمون ذي المعنى، الذي يعالج المشاكل الإنسانية_ الاجتماعية بشكل حقيقي وغير سطحي. ويتحكم بعض المنتجين بالمحتوى بحيث يستهدفون تسطيحه وتفريغه من مضمونه فلا يبقى للمشاهد العربي سوى القشور واللّامعنى. لهذا، أرى في هذا المجال ضرورة إنشاء ورشة عمل كبيرة بقيادة صينية تضع كل خبراتها فيها، يتمّ في نهايتها تخريج مجموعة من الكتاب والمخرجين والتقنيين العرب يشكلون نواة للبدء بإنتاج أعمال درامية تلفزيونية وسينمائية مشتركة عربية- صينية.
إن القوة الناعمة تمهد الطريق إلى التفاعل والتقارب بين العرب والصين، فلطالما استخدمت جهات غربية تلك القوة بهدف تنميط صورة الشخصية الصينية وايضا العربية ، بل تشويهها مرات كثرة لأهداف سياسية. ولعله آن الأوان إلى نصنع صورتنا بأنفسنا عربا وصينيين معا.
لمن فاتته متابعة الأجزاء السابقة:
- خمسون لبنان والصين (١) السفير الصيني يكتب: سنواصل دعم الشعب اللبناني بروح الفريق الواحد
- خمسون لبنان والصين (٢): الصين بوابة تنويع الخيارات اللبنانية | بقلم السيدة عليا عباس
- خمسون لبنان والصين (٣): آفاق العلاقات اللبنانية الصينية وروحية طريق الحرير| بقلم قاسم طفيلي
- خمسون لبنان والصين (٤) : لبنان والصين علاقات تتجذر وتقوى مع الزمن | كتب د. نبيل سرور
- خمسون لبنان والصين (٥) : التفاعل الثقافي بين حماسة الصينيين وظروف لبنان الصعبة | كتب أحمد بزّون
- خمسون لبنان والصين (6) : تأملات في العلاقة الثنائية | بقلم د. محمد زريق
- خمسون لبنان والصين (٧) : كيف نعمل على زيادة الروابط بين لبنان والصين | بقلم العميد الياس فرحات
- خمسون لبنان والصين (٨) : شهادة 42 عامًا من الصداقة | بقلم د. جميل حديب
- خمسون لبنان والصين (٩) : تعزيز العلاقات لتعزيز الاقتصاد اللبناني | بقلم العميد قاسم جمول
- خمسون لبنان والصين (١٠): ما الدور الذي يمكن أن يلعبه لبنان في مبادرة الحزام والطريق ؟ | كتب محمود ريا
- خمسون لبنان والصين (١١) : الصداقة بما هي أفق حضاري وجوهر إنساني | كتب د. محمود حيدر
- خمسون لبنان والصين (١٢) : وفاء” لتجربة الصين الرائدة الأخذ بمبادرة الحزام والطريق | كتب وارف قميحة
- خمسون لبنان والصين (١٣) : لشراكة استراتيجية تنهض بلبنان وتنهي أزماته | كتب وائل خليل ياسين