الصين، إنها بهذه القوة الصلبة، فهي القوة العسكرية والقوة الإقتصادية. والصين، إنها بهذه القوة الدولية، فهي القوة التنموية والقوة التكنولوجية والقوة الإبتكارية. لا بل الصين إنها بالقوة الناعمة، فهي قبل كل الشيء القوة الثقافية الصاعدة.
أثبتت الصين في العقود المنصرمة أنها ليست مجرد قوة إقتصادية فحسب. فوضعت الصين استراتيجية التأثير الثقافي في صميم سياستها الخارجية وتصدرت قائمة دول السوفت باور (soft power). وبشكلٍ عام، فإن أكثرية الكتب التي انكبّت على دراسة الصين، قامت بتحليل القوة الصينية الصاعدة بمقاربة علمية سياسية أو إقتصادية أو استراتيجية بحت، ونادراً ما نظرت فيه من المنظور الثقافي.
كان جوزيف ناي، مساعد وزير الدفاع لشؤون الأمن الدولي الأمريكي سابقاً، قد طرح مفهوم القوة الناعمة والقوة الذكية لأول مرة في التسعينيات لوصف القدرة على الجذب دون الإكراه، فيكون للدولة قوة روحية ومعنوية داخل المجتمعات الأخرى، تبنيها تدريجياً من خلال نشر أفكارها ومبادئها وأخلاقها وذلك، عبر قنوات متعددة المجالات سيما منها الثقافة والفن والتربية. وقد لقى هذا المفهوم رحاباً كبيراً في صفوف المفكرين والسياسيين الصينيين. ففي مطلع الألفين، قررت السلطات الصينية أن تأخذ بزمام المبادرات الثقافية وأن تطورها لكي تصبح عابرة الحدود. وأشار في هذا الصدد الأمين العام للحزب الشيوعي الصيني هو جينتاو في 2017 إلى أهمية هذا الإمتداد الثقافي.
من الناحية العلمية، لا يمكن فهم سياسة دولة ما من دون الرجوع إلى عمق تاريخها. وإن المجتمع الصيني، على غرار كل المجتمعات في العالم، حافظ على ذاكرته الجماعية التاريخية، فعراقة التقاليد الصينية متجذرة في عمق التاريخ. وبالتالي، فالسؤال الذي يطرح نفسه هو الآتي: أأن الإنتشار اللغوي والثقافي الصيني الذي يشهده عالمنا اليوم مجرد سلاح بارد وقاطع تستخدمه الصين لتبوؤ العرش وفرض نظام عالمي جديد كما يقول البعض، أو أن هذا الإنتشار الثقافي قائم على أساس روح التسامح والإحترام المتبادل وثقافة الإعتراف بالآخر والإنفتاح الودّي، ألا وهي لبّ الحضارة والتقاليد المجتمعية الصينية ؟
لم تستثن الصين لبنان من قاعدة الدول التي ستستفيد من دعمها في عهد طريق الحرير الجديد. واسمحوا لي أن أتكلم بلساني الصيني لأرسم معالم التقارب الثقافي الذي حصلبين البلدين، واسمحوا لي أن أتكلم بلساني اللبناني لأرفع صوت أولئك الذين خاضوا غمار هذا التقارب.
خلال السنوات الخمسين الماضية، اتخذت العلاقات اللبنانية – الصينية طابعاً ثقافياً مهماً ساهم في تقارب النفوس وتوطيد العلاقات على نطاق يتخطى المصالح التجارية والإقتصادية البحتة.وتطبيقاً لما أفاده لي شانغشون، وهو من كبار المسؤولين في حزب الشيوعي الصيني، في 2006، فقد انتشرت معاهد تعليم اللغة الصينية والتبادل الثقافي في العالم، وعلى طليعتها أول معهد كونفوشيوس في العالم العربي الذي اتخذ مقراً له في لبنان في الجامعة اليسوعية في 2006 وذلك، بدعم من سفارة الصين في لبنان، ولاحقاً، قسم اللغة الصينية في مركز اللغات والترجمة في الجامعة اللبنانية الذي استحدث في 2015. وواكب هذا الانتشار للمرافق الثقافية عملية تطوير منصات التواصل الإجتماعي، تكريساً لفلسفة ال”zouchuqu” الصينية، أي الخروج. فأصبحت الصين أكبر دولة مصدرة للطلاب إلى الخارج ومنهم الطلاب الذين يصلون إلى لبنان كل سنة لمتابعة دروسهم وتطوير مهاراتهم باللغة العربية.
روايتي رواية شابة لبنانية بدأت مسيرتها اللغوية الصينية في عمر الرابعة عشر، ومنذ ذلك الحين ومسيرتي تتطور وتزدهر بفضل علاقات الأخوة التي بنيتها مع الشعب الصيني، جاليةً في لبنان، والمقيم في الصين، والذي تميّز بإنسانيته وحبّ المعرفة بالشعوب الأخرى. وكلما كنت أزور الصين، كنت ألتمس هذه الروح الإنسانية المرسخّة في طبيعة الشعب التاريخية، هو الذي حارب الاستعمار وتحلّى بميزة التسامح والاحترام، فها هو اليوم يبني عليهما ثقافته وينشرها إجتماعياً ولغوياً وأكاديمياً.
والقناعة واحدة، لا بل القناعة راسخة، وهي أن الثقافة الصينية تكمن في الأخلاقيات. فيكرّس الصينيون مفهوم الشرف، ذلك الشرف الذي يتغلّب على الرغبة في الإنتصار والذي يعوّض عن الخوف من الهزيمة. ويرفع الصينيون راية الثقة، تلك الثقة التي تسمح ببناء الجسور المستدامة بين الشعوب.
أما اليوم، فقد انتشرت الثقافة الصينية بجميع مكوناتها الحضارية واللغوية والأخلاقية، وبجميع مجالاتها الطبية والفنية والموسيقية والرياضية والسياحية والطهي، في لبنان وأغنت شعبه. وجيلنا اليوم، جيل الشباب الصاعد والمستقبل الواعد، لم يخلّفه الركب وراءه، فقد تفتّحت عينيه على الغنى الثقافي الصيني وما يرافق ذلك من فرص للنمو المهني والتطور الشخصاني.
وفي الذكرى الخمسين للعلاقات الدبلوماسية بين جمهورية الصين الشعبية والجمهورية اللبنانية، لا يسعني سوى أن أعبّر مرّة جديدة عن محبتي لهذا الشعب الذي استقبلني في حضنه الدافئ والذي مدّ يد التعاون الثقافي لإغناء على قدر أكبر بلاد عُرفت بأنها هي بوصلة الحضارات والثقافات، هذه الصين التي احتضنت الشباب اللبنانيين ووسعت آفاقهم في زمن لا تنفك فيه العواصف تضرب بهم. فاذكر يا لبنان أن ما علمنا إياه التاريخ هو أن شرارة الثقافة تنتشر بسرعة.
لمتابعة باقي أجزاء السلسلة : اضغط هنا