في نيسان من عام 2016، وفي اثناء زيارتي لجمهورية الصين الشعبية، التقيت بنائب رئيس الجامعة الدولية للأعمال والإقتصاد في بيجينغ. لقد بدا الرجل مفعما بالتفاؤل، شأنه شأن معظم من التقيتهم هناك، في مسألة تطوير علاقات الصين الإقتصادية واستثماراتها على طول دول الحزام والطريق وعرضها والتي تشمل قارات العالم القديم الثلاث. لقد قال لي بالحرف : كصينيين ، قامت شهرتنا على تشييد الأسوار ، أما الآن فهدفنا هدم تلك الأسوار والإنطلاق في بناء الجسور والطرقات. هذا هو جوهر مبادرة الحزام والطريق. الصين لم تعتد يوما على أحد، ولم تسع يوما، بقوتها العسكرية، الى تحقيق غاياتها الإقتصادية، نحن نمد يد الصداقة والتعاون لشعوب الأرض قاطبة، من خلال الإستثمار في بناء الجسور والأنفاق وسكك الحديد والموانىء في الدول التي تربطنا معها علاقات تجارية منذ آلاف السنين في القارات الثلاث. ان مبادرة الحزام والطريق ما هي الا استنهاض لطريق الحرير التاريخية بنسخة منقحة.
مع مرور خمسين عاما على قيام العلاقات الديبلوماسية بين لبنان والصين، ينظر الى هذه العلاقات على انها قائمة على الإحترام المتبادل والمودة، ولم تتطور بالقدر الذي يرغب به شعبا البلدين. لم تقف الصين، بصفتها عضوا دائما في مجلس الأمن وقوة عالمية عظمى، إلا الى جانب لبنان وقضايا المنطقة المحقة ، وإلى جانب شعوبها وحقهم في تقرير مصيرهم، دون التدخل في شؤونها الداخلية . غير أن في لبنان ترددا من الإنخراط الإقتصادي او الثقافي او العسكري مع دول غير دول اوروبا الغربية والولايات المتحدة الأميركية.
لقد اهدر لبنان العديد من أطواق النجاة التي رميت له من دول لا تدور في الفلك الأميركي أو الغربي تحديدا، من هبة الطيران الحربي الروسي ومد الجيش اللبناني بالأسلحة والذخائر،الى مشاريع الإستثمار الضخمة التي اعلنت عنها الشركات الصينية المهتمة بالاستثمار في لبنان في مطلع صيف العام الماضي، حيث نقلت معلومات صحفية عن اهتمام هذه الشركات بتسعة مشاريع استراتيجية بقيمة 12.5 مليار دولار اميركي، أبرزها سكك الحديد وقطاع الكهرباء. ولا يلتزم الصينيون بسكّة حديد واحدة تمتّد على الخط الساحلي، بل بشبكة متكاملة تجعل لبنان مترابطاً من أقصاه إلى أقصاه، عبر سكّة الخط الساحلي وربط المرافئ وسكّة طريق الشام، بما فيها نفق حمانا، والخطوط الداخلية التي تربط الجنوب بالبقاع وبالساحل غرباً ودمشق وحمص شرقاً. ويتكامل ذلك مع عرض لتأهيل مرفأ بحري وإدارته.
ووفقا للمصادر الصحفية اعرب المستثمرون الصينيون عن اهتمامهم بإنشاء معامل لإنتاج الكهرباء بالفيول أو الغاز، وكذلك منشآت إنتاج الكهرباء من الطاقة الشمسية، التي وُضعت دراسات لتوليدها فوق مجاري نهر الليطاني وسدوده، إضافة إلى مساحات أخرى، كما عرض الصينيون تنظيف مجرى النهر ومعالجة الملوّثات التي جعلت مياهه ومجراه مكاناً غير قابل للحياة، بدل أن تكون مصدراً للإنماء وتطوير الانتاج الزراعي، وعاملاً من عوامل الاستقرار الديموغرافي. وكذلك الأمر بالنسبة إلى ملفّ النفايات، قدّمت الشركات الصينية حلولاً متطوّرة للأزمة المتفاقمة، عبر بناء معامل الفرز والمعالجة وإعادة التدوير، لوقف الاستنزاف والتلوّث، كل ذلك من خلال القروض الطويلة الأمد حتى 30 عاماً بفوائد لا تتجاوز 1.5%، وأخرى عبر نظام الـBOT، والشراكة بين القطاع العام أو الدولة والقطاع الخاص.
نوايا الشركات الإستثمارية الصينية التي أميط عنها اللثام قبل انفجار الرابع من آب ، عادت بعده وبقوة لتظهر في عملية تقديم العروض لإعادة إعمار مرفأ بيروت والدخول في مناقصة عامة تنافسها فيها شركات فرنسية والمانية وهولندية وبلجيكية واميركية وتركية، غير أن لشركة “تشاينا هاربور” الصينية خبرة في السوق البحرية اللبنانية حيث كانت قد عملت على تأهيل مرفأ طرابلس في العام 2012، ليصبح جاهزا لاستقبال كافة أنواع السفن، و توسعة حوضه لاستقبال أضخم أنواع السفن البالغ غاطسها 15.5 متر، ونفذت رصيفا لاستقبال الحاويات مجهز برافعات صينية متطورة قادرة على رفع ونقل أكثر من 700 حاوية في اليوم ما يعادل 480 ألف حاوية في السنة.
في الرابع من آب من العام الجاري، عقدت فرنسا مؤتمراً للدول المانحة بالإشتراك مع الأمم المتحدة لدعم لبنان، تمخض عن تعهّدات بتقديم مساعدات لإعادة بناء مرفأ بيروت من قبل كل من فرنسا وألمانيا، وسط وجود رغبة أمريكية بضمان عدم قيام الصين بذلك، وقلق اوروبي متصاعد من تمدد النفوذ الصيني في موانىء البحر المتوسط، الذي لطالما اعتبرته اوروبا فناءها الخلفي وبحيرتها المسورة، لا سيما في مصر وإسرائيل واليونان، في إطار مشروع الحزام والطريق، تلك الإستراتيجية الصينية الشاملة للإستثمار في الطرق، والسكك الحديدية، وإنتاج الطاقة، ومرور البضائع ومشاريع البنية التحتية الأخرى، عبر أكثر من 60 دولة.
حتى أواخر العام 2020، كانت الدراسات تشير إلى أنّ شركات الموانىء البحرية في الصين تملك جزئياً أو تدير، 95 ميناء في كلّ أنحاء العالم. بين تلك الموانئ، يوجد 22 ميناء في أوروبا، 20 ميناء في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، 18 ميناء في الأمريكتين، 18 ميناء في جنوب آسيا وجنوب شرقها، و9 موانئ في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى.
تخشى الولايات المتحدة الأميركية ، ومعها الدول الأوروبية ، من الدور الصيني الذي يتمدّد بكلّ شرق البحر المتوسط لغايات عديدة، ليس أقلها التحكّم بالأمور السياسية لدوله نتيجة عجزها عن دفع الديون، وذلك ما حصل مع سيرلانكا حيث استولت الصين على موانىء استراتيجية فيها، ومع كينيا في ميناء مومباسا، ومع باكستان في ميناء غوادار، ، إضافةً إلى دول أخرى مثل لاغوس وزامبيا… فالدور الصيني، وفقا للمنظور الغربي، يهدف من خلال الديون، المسماة استثمارات طويلة الأمد، إلى اقتناص اللحظة المناسبة، وعندما تعجز هذه الدول عن دفع ديونها، تتدخل الصين إمّا بحجز ممتلكات وموانىء، وإمّا بالتدخل بالشؤون السيادية للدول.
ازاء استشعار هذا التمدد الصيني غير البريء، بنظرها، دفعت الولايات المتحدة بسلطة موانىء دبي الى الوقوف بوجه التوغل الصيني، فنشبت حرب سيطرة محمومة على الموانىء عبر العالم بين الصين والإمارات العربية المتحدة، بدعم واضح من الولايات المتحدة الأميركية، حيث باتت تمتلك موانئ دبي العالميَّة 78 محطّة بحرية وداخلية عاملة تدعمها أكثر من 50 شركة ذات صلة في 40 دولة عبر ست قارات.
تؤدّي المشاركة الصينية المتزايدة في عمليات الموانىء، إلى تعزيز سيطرة بيجينغ على بنية الربط التجاري في دول المتوسط، والتحكم بالتدفقات التجارية العالمية بين أوروبا والشرق الأوسط وآسيا وفقاً لأولويات بيجينغ، التي باتت تسيطرُ بالفعل على الشريانِ البحري التجاري للبحر المتوسط، الذي يربطُ موانىء مصر واسرائيل بالبر الأوروبي في ميناء الشحن الذي تديره الصين في ميناء بيرايوس باليونان. وتوفّر شركة تشاينا أوشن شيبينغ كومباني خدمة الشحن بالسككِ الحديدية التي تصل في نهاية المطاف، إلى النمسا وجمهورية التشيك وألمانيا وبولندا.
العرض التركي لإعادة إعمار مرفأ بيروت لم يُكتب له النجاح بفعل الحساسية من الدور التركي في لبنان، في الوقت الذي تبذل فيه فرنسا جهودا سياسية وديبلوماسية جبارة للحفاظ على آخر موطىء قدم لها في شرق المتوسط وتلعب دوراً بنّاءً بطرح نفسها كراعية لإعادة الروح الى مرفأ بيروت وتوسعته وإعادته الى الخريطة التجارية البحرية العالمية وكذلك الألمان. وفي مقلب آخر تطرح الصين عروضا لا يمكن رفضها لإعادة البناء، بالنظر للتسهيلات الإقتصادية المغرية والتنافسية العالية التي ترافقها، ما يفسر نظرية الأخطبوط الصيني الذي يريد أن تمتد أذرعه في كلّ مناطق ومرافىء شرق المتوسط.
بين النظرة الغربية للتوسع البحري الصيني في دول العالم كافة، وفي شرق المتوسط بوجه خاص، وبين حاجته الملحة لإعادة بناء مرفأ عاصمته المدمر، يقف لبنان على رصيف الإنتظار والترقب، وهو يعيش أسوأ أزماته الإقتصادية، التي صنفت بأنها الأسوأ عالميا خلال المئة وخمسين سنة المنصرمة، بجياب خالية الوفاض ومديونية رهيبة وعجز مالي غير مسبوق. إنها مسألة حسم خيارات استراتيجية، كان لبنان عاجزا عن اتخاذ قرار فيها ، عندما كان يتمتع بعافيته الإقتصادية، فكيف الحال به في هذه الأيام، حيث يقع مسؤولوه بين سندان الحاجة العروض الصينية المغرية، وبين مطرقة صندوق النقد والبنك الدوليين، الخاضعين لإملاءلت الغرب ومصالحه، لإعادة هيكلة اقتصاده وجدولة ديونه العاجز عن إيفاء سندات فائدتها حتى. بائس مصير هذا البلد الذي تتناسل فيه المشاكل ولا تنتهي، كأنه حكم عليه بعدم تحقيق مصلحته بل مصالح الآخرين دائما على حساب شعبه واستقراره. هي قصة التردد القاتل والمودة والإحترام التي حكمت علاقاته مع دولة عظمى، غير امبريالية أو توسعية حتى اليوم، خلال السنوات الخمسين المنصرمة من العلاقات الديبلوماسية بينهما، فهل تشهد الخمسون الآتية تعديلا في المقاربة، يتصف بالحزم، إلى جانب الحفاظ على الإحترام والمودة، ويصب في مصلحة البلدين وشعبهما؟
لمتابعة باقي أجزاء السلسلة : اضغط هنا