في التجارة الدولية، تشكل التعاملات والعلاقات المصرفية بين البنوك في الدول المختلفة أحد العوامل المؤثرة على عمليات التصدير والاستيراد، فالحالة التي تتسم بها تلك العلاقات ونوعيتها تحدد طبيعة التعاملات بين البنوك المحلية (البنك المُصدّر) والبنوك الأجنبية (البنك المستورد). وفي حال عدم وجود تعاملات مصرفية بين البنوك في كلٍ من بلد المُصدّر والمستورد فذلك يؤدي إلى صعوبة تنفيذ الإجراءات المالية اللازمة لإتمام عملية التصدير. ولإدارة وتيسير التعاملات المصرفية الدولية تتبنى البنوك علاقة “بنوك المراسلة” بينها وبين البنوك في الدول الأخرى. والبنوك المراسلة هي شبكة من البنوك والمؤسسات المالية الأجنبية التي يستخدمها أو يتعامل معها البنك المحلي لتقديم خدمات تحويل الأموال وتمويل التجارة الخارجية والاعتمادات المُستندية وغيرها من الخدمات المالية الأخرى لصالح العملاء المحليين أو أنشطة البنك الدولية.

تأسيساً على تقدم، فإن العلاقات بين الصين ولبنان ليست وليدة اليوم، بل تعود إلى قديم الزمان حيث كان طريق الحرير القديم يربط بين لبنان والصين منذ قرنين من الزمن. وإذا كانت العلاقات الدبلوماسية بين البلدين تعود إلى العام 1971، بعد أن استعادت الصين مقعدها الشرعي في الأمم المتحدة، فإن العلاقات التجارية بينهما ترجع إلى العام 1955، عندما قام أول وفد صيني بزيارة لبنان ليتم بعدها إبرام أول اتفاق تجاري بين الصين ولبنان وإنشاء مكاتب تجارية صينية في العام 1956. ومنذ ذلك الوقت حققت العلاقات التجارية تطوراً كبيراً ازدادت في السنوات الأخيرة قبل أزمة فيروس كورونا المستجدّ، حيث تتربع الصين حالياً على قمة الدول المصدرة للبنان بأكثر من ملياري دولار سنوياً.

وقد شهدت الأعوام القليلة الماضية سلسلة من الزيارات المتبادلة وتوقيع العديد من الاتفاقيات منها إطلاق مشروع «بيروت إلى بكين» في بداية عام 2016. وذلك ضمن هذه المبادرة، حيث هدف هذا المشروع إلى تعزيز العلاقات الاقتصادية والتجارية والاستثمارية والسياحية بين البلدين، وانضمام لبنان إلى مبادرة الحزام والطريق عام 2017، حيث وقعت حكومتا البلدين مذكرة تفاهم بشأن هذا الانضمام. والأهم في هذا المجال كان التعاون المالي والمصرفي بين البلدين، حيث شهد شهر أيلول من عام 2017، التوقيع على مذكرة تفاهم بين لجنة الرقابة على المصارف في لبنان وهيئة الرقابة المصرفية الصينية. وكذلك تم اختيار بيروت مقرًا لممثلية المجلس الصيني لتشجيع التجارة.

وفي الإطار عينه، تم في عام 2017 توقيع اتفاقية بين اتحاد المصارف العربية والمجلس الصيني لتنمية التجارة الدولية الجمعة الماضي، وهي اتفاقية تعاون تهدف لتعزيز العلاقات بين الصين والقطاع المصرفي العربي وزيادة التبادل التجاري بين الجانبين، حيث يمكن للمصارف اللبنانية الاستفادة من تلك الاتفاقية. ويذكر بأن إن اتحاد المصارف العربية الذي يضم أكثر من 340 مصرفا ومؤسسة مالية تمثل مختلف الدول العربية سيعمل جاهدا أيضا لتوسيع العلاقات بين القطاع المصرفي العربي والصين وفتح المجال أمام إنشاء شراكات استراتيجية بين الطرفين في المستقبل.

وانطلاقاً مما سبق، فإن ما تقدم من مناخ إيجابي ومتنامي بشكل مستدام بين لبنان والصين، يؤهل البنوك اللبنانية لاقتناص فرص توسع العلاقات بين الصين ولبنان بشكل خاص وبين الصين ومنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بشكل عام، بالإضافة إلى تعزيز التعاون الاستثماري. فمع اتساع أفق الروابط التجارية بين الصين ولبنان ودول المنطقة، وازدهار أعمال التبادل التجاري جنباً إلى جنب مع الأنشطة التجارية الأخرى، ما يؤهل الصين لتكون سوقاً استراتيجية للبنوك اللبنانية لتأسيس فروع لها في البر الصيني.

إن افتتاح فروع لمصارف لبنانية في دولة عظمى كالصين يعتبر علامة فارقة؛ فالفرص المتوافرة في الصين لا حدود لها، وهناك ثقة عالية بقدرة المصارف اللبنانية على توفير كافة الاحتياجات المالية والمصرفية لعملائها في لبنان والصين. وهذا من شأنه أن يعكس استجابة للدور الرئيسي الذي تلعبه الصين في الاقتصاد اللبناني والشرق أوسطي وكذلك لحجم التبادل التجاري بين البلدين. إن نمو حجم الأعمال بين البلدين يتطلب تواجد أكثر من مجرد مكاتب تمثيلية فقط، وإنما فروع للبنوك اللبنانية، حيث إن اقتران الخبرة المصرفية اللبنانية والتعاملات المالية تمكنها من التواجد في الصين، والتي تتطلب أعلى المعايير المهنية.

وتؤكد أهمية العلاقات الدبلوماسية القوية التي تربط بين لبنان والصين منذ عقود طويلة على أهمية تشجيع استثمارات القطاع الخاص والتبادل التجاري بين البلدين، وتقديم الدعم وتشجيع رؤية الصين لمشروعها الحيوي طريق الحرير الجديد. هذا مع التأكيد بأن الصين تسعى لتعزيز علاقاتها مع جميع الدول العربية في القطاعات الاقتصادية والاستثمارية والتجارية في ظل الوضع الدولي الذي يتسم بالتكامل الاقتصادي. ومن هنا ينبغي على المصارف اللبنانية الإفادة من الاتفاقية تم توقيعها بين اتحاد المصارف العربية والمجلس الصيني لتنمية التجارة الدولية عام 2017 (المشار اليها آنفاً) والتي تهدف لتبادل الخبرات بين الجانبين وتعزيز التبادل التجاري الصيني – العربي، والتي تحث المصارف العربية على لعب دور في تمويل هذه التجارة وكذلك نقل التكنولوجيا المتقدمة من الصين إلى العالم العربي.

ويذكر بأن الاتفاقية المذكورة قد وضعت حجر الأساس لتعزيز التعاون في المستقبل، في وقت يسعى فيه اتحاد المصارف العربية من جانبه لفتح قنوات حوار مصرفي عربي – صيني واستكشاف إمكانيات التبادل المصرفي بين الجانبين. فاتحاد المصارف العربية يمكن أن يلعب دورا مهما في تعزيز العلاقات الاقتصادية والتجارية العربية مع الصين نظرا لدور المصارف الأساسي في تمويل العمليات التجارية. وفي نفس السياق، أبدت الصين من جانبها أيضاً خلال السنوات الأخيرة اهتماما متزايدا بتعزيز العلاقات الاقتصادية مع الدول العربية، وهي تسعى اليوم لزيادة التبادل التجاري والمصرفي مع المنطقة العربية، وكذلك توسيع التعاون في مجال تكنولوجيا المعلومات.

ويذكر بأن بعض المصارف الخليجية كانت قد افتتحت فروعاً أو مكاتب تمثيل لها في الصين منها: بنك الكويت الوطني (الكويت)، بنك الاتحاد الوطني، وبنك أبو ظبي الوطني وبنك الامارات الوطني (الامارات العربية المتحدة). وكان بنك مسقط (سلطنة عمان) قد أعلن عن قيامه بتوقيع اتفاقية مع بنك الصين يتم بموجبها دفع قيمة التعاملات والمعاملات التجارية بالعملة الصينية، حيث ستساهم هذه الخطوة في تعزيز وتنمية العلاقات الاقتصادية بين السلطنة والصين. وفي سياقٍ موازٍ، يذكر بأن الصين قد حصلت على ترخيص بإنشاء فرع للبنك الصناعي والتجاري الصيني، وهو أكبر مصرف في الصين، في عدد من عواصم دول مجلس التعاون الخليجي.

ويبرز الاهتمام الصيني في المنطقة العربية من خلال مبادرات متعددة، لتنسيق العلاقات المصرفية والتشريعات والتسهيلات القانونية المحفزة، لفتح فروع للمصارف العربية في الصين. وتحرص الصين في خططها الاستراتيجية، على الدخول في استثمار مشاريع عملاقة في أنحاء العالم، وهو ما يمكن أن تقوم به في المنطقة العربية التي تبدو في أمس الحاجة إلى الاستثمارات الصينية. وتزايدت أهمية التعاون الاستثماري بين الدول العربية والصين، في ظل تباطؤ نمو الاقتصاد العالمي، وركود اقتصاد دول الاتحاد الأوروبي. وترى بعض المصارف العربية أن الصين تتفوق على أوروبا والولايات المتحدة كوجهة مفضلة للعمل المصرفي. فهل نرى في المستقبل القريب توجه بعض المصارف اللبنانية الى الصين لفتح فروع لها من ضمن استراتيجية الشراكة والتعاون بين البلدين، وتتويجاً لعلاقات امتدت لأكثر من خمسين عاماً؟

لمتابعة باقي أجزاء السلسلة : اضغط هنا