خمسون سنة مرت على العلاقات اللبنانية الصينية، فما هي العبرة التي يمكن استخلاصها بعد التجارب والتحديات التي واجهتها دولة كبرى بحجم الصين ودولة صغرى مثل لبنان ؟

خلال نصف قرن مضى تحولت الصين الى دولة عظمى تنافس الولايات المتحدة التي تحكم العالم منفردة وهي اليوم تحشد قواعا وتستنفر حلفائها لتطويق صعود المارد الاصفر الذي يقض مضجعها.

بينما لبنان هدر نصف قرن من عمره المنصرف وتحول من ” درة الشرق ” كما ورد في نشيده الوطني الى متسكع على ابواب العالم يشحد لقمة العيش .

يواجه لبنان اليوم خطرا وجوديا على مصيره ، هل يستطيع ان يستفيد من التجربة الصينية حتى يجدد شبابه ، ام سيبقى اسير عقلية انعزالية قاتلة وتبعية لهيمنة خارجية تضعه امام مفترق خيارات تهدد هويته وغده . في لبنان صراع بين نموذج غربي مأزوم وخيار شرقي مجهول ومحرم بالنسبة للبعض .

سأحاول هنا باختصار عرض جوهر النموذج الصيني علّه يكون مفيدا لاستلهام تجربتنا الخاصة للخلاص من كبوتنا .

لم ينتهِ التاريخ بعد، في زمن كورونا ظهرت الرأسمالية عاجزة وفاشلة . فما هو الحل؟
البعض طرح نظريات السوق الاجتماعي اوالليبرالية التكافلية، اخرون بديلهم الاقتصاد التضامني او التشاركي او التعاوني … وغيرهم اختار الكونفوشيوسية نموذجا ؟ في هذه المقالة ساتوقف قليلا عند تجربة صينية حضارية متجددة وفريدة .

بداية لا بد من التساؤل عن سر نجاح «التفوق الصيني». هل هو عائد الى طبيعة الشعب الصيني المصمم والمنظم والنشيط؟ ام الى «شيوعية» الصين؟ ام الى «كونفوشيتها»؟ الأرجح أن «الخلطة الصينية» هي السر، فقد جمعت التقاليد الموروثة ونظم العدالة الاجتماعية، مع اقتصاد السوق الليبرالي تحت سلطة سياسية شيوعية.

تقدم الصين اليوم نظرة جديدة للعلاقات الدولية انطلاقا من اسيا محيطها الاقليمي مرورا بمشروعها المعروف بمبادرة “الحزام والطريق” وصولا الى الانسانية . تنطلق الرؤية الدولية الصينية من مفاهيمها الحضارية ولاسيما الكونفوشيوسية . منذ القدم تبنت الأمة الصينية فلسفة “التناغم دون التطابق” و”استيعاب الجميع” كأسلوب للتعايش مع الثقافات المختلفة.وقد تمسكت الصين حضاريا بقيم التآلف والتكاتف في تعاملاتها مع دول العالم . وهذا التوجه يستند على روح ومبدأ “الانسجام الكبير” و”التناغم الأساسي” المكرس في الثقافة الكونفوشيوسية . إحياء الكونفوشيوسية اليوم هو إعادة تشكيل الهوية القومية الثقافية الصينية .

وفي هذا السياق، طرح الرئيس شي أربعة قواعد للعلاقات الدولية ، وهي:

أولا: “علينا أن نتمسك بالمعاملات المتساوية والاحترام المتبادل، ونرفض الغرور والتحيّز. تعميق إدراكنا بالفوارق بين حضاراتنا ، ونجتهد في دفع التبادل والحوار بين الحضارات للتعايش المتناغم.”

ثانيا: “في الوقت الذي نعمل فيه على إثراء حضاراتنا، علينا أن نخلق الظروف الملائمة لازدهار الحضارات الأخرى. لجعل حضارات العالم تشمل كل لون وطيف.”

ثالثا: “يجب أن نتحلّى بروح مليئة بالتسامح والانفتاح ، من أجل كسر عقبات التبادل الثقافي، وندعم التقدم المشترك للحضارات الآسيوية والعالمية في ظل التعلّم المتبادل.”

رابعا: ” مواكبة العصر وتفعيل الابتكار لدفع التنمية والتقدم ، وتحقيق إنجازات حضارية عابرة للزمان والمكان ومفعمة بروح الجمال الأزلية.”

هذه الرؤية نابعة من القواعد الكونفوشيوسية التي تركز على ما يلي :

1- التناغم : يعد مفهوم “التناغم”، الأبرز في الثقافة الكونفوشيوسية . وهويعني التناغم بين الإنسان والآخر، وبين الإنسان والطبيعة، و يتحقق من خلال التفاهم والعطاء المتبادل، و ينعكس على سلوك الفرد والأسرة والمجتمع ككل.

2- “الإصلاح والانفتاح” : الكونفوشيوسية أثرت كثيرا في إعادة بناء الصين، خاصة مع بدء سياسة الإصلاح والانفتاح التي أطلقها دنغ شياو بينغ، في العام 1978، وقد تضمنت مواقفه الكثير من القيم والمبادئ الكونفوشيوسية التي قصرت المسافة كثيرا بين الصين والعالم .

3 – السياسة الخارجية : أن مبادئ السياسة الخارجية الصينية في الوقت الحالي مستمدة من تعاليم كونفوشيوس، والتي تقوم على التوافق والتعاون رغم الاختلاف و الدعوة الى إنسانية واحدة وثقافات متعددة في مصير مشترك للبشرية. أن الكونفوشيوسية تدعو إلى التقارب بين البشر، ونشر السلام ونبذ الحرب، وحماية البيئة والتناغم لتحقيق السلام الدولي وبناء المجتمع العالمي. لذلك تحظى الحضارة الايكولوجية باهتمام كبير في توجهات الرئيس الصيني شي جين بينغ .

هذه القيم ما زالت بعيدة عن سلوكيات الولايات المتحدة التي تجنح الى الاستكبار والعنصرية والغاء الاخر حتى ولو كان حليفا لها . المدنية الغربية الحالية دمرت العلاقات الإنسانية سواء بين الإنسان وأخيه الإنسان أو بين الإنسان والطبيعة، والعالم اليوم يحتاج إلى حضارة أيكولوجية جديدة تحفظ العلاقة بين الإنسان والطبيعة . إذا استمرت الحضارة الإنسانية بهذه البشاعة فإن الحياة ستنتهي ، لذلك لابد من وجود نموذج اخر من الحضارة – تحاول الكونفوشيوسية وغيرها تجسيده – يقوم على محور أساسي، وهو الآخر سواء كان إنسانا أو طبيعة .

يعلن المفكرون الصينيون اليوم استقلالهم عن النماذج الغربية ، و رفضهم استيراد نظريات بالجملة من الخارج . بالمقابل الالتزام بتجارب الصين التاريخية لابتكار فكرة جديدة للحداثة . على ان تكون مستمدة من منابع متنوعة منها : مفاهيم السوق الليبرالية بما فيها الحرية والحقوق ، التجربة الشيوعية في تحقيق العدالة والمساواة ، الثقافة الكونفوشيوسية .

هذه التقاليد الثلاثة غير متناقضة بالنسبة لهم ويمكن التوفيق بانسجام فيما بينها . خاصة وانها ليست المرة الاولى التي يسعى فيها الصينيون الى الجمع بين الخبرة الغربية والهوية القومية .فقد سعى المصلحون الكونفوشيوسيون في القرن 19 الى دعم النظام الامبراطوري باستخدام ” المعرفة العملية ” الغربية عند يونغ yong ) ) للحفاظ على ” الجوهر ” الصيني تي ti ) ) .

بعدما حرر المثقفون الصينيون انفسهم من الماركسية التقليدية ، يحررون انفسهم اليوم من اعجابهم الاعمى بالراسمالية الغربية . ويعملون من اجل صياغة رؤية جديدة للعولمة تمكن الفكر الصيني الجديد من تقديم الكونفوشيوسية كنموذج لتغيير النظام العالمي وتغيير الغرب نفسه .

في ذكرى مرور نصف قرن على علاقات خجولة بين دولة عظمى كالصين ودولة صغرى بحجم لبنان ، هل يحاول لبنان المنهار الاستفادة من طريق النجاح الصيني ليبدع طريقه الخاص نحوى التحرر والنهضة ؟

للاطلاع على السلسلة كاملة : اضغط هنا