سأتحدث عن نظرةٍ نابعةٍ من تجربتي الخاصّة في مجالي الابتكار والتكنولوجيا في الصين، فتجربة الابتكار هناك تضم ملايين قصص النجاح لأشخاص وشركات لا يتمّ الحديث الترويجي عنهم في لبنان والمشرق العربي ربّما لأن الميديا يهيمن عليها “التغرّب”، هذه التجربة نرى نتائجها من خلال تسيّد الصين الانتاج الصناعي العالمي دون منازع، وسيرها مسرعةً للتربّع على قمة قطاع التقانة العالية والذكاء الاصطناعي.
وهناك الكثير من الدراسات الغربية تقرّ بأن تطبيق معايير الابتكار التقليدية لتصنيف النموذج الصيني أثبتت أن هذه المعايير قاصرة عن فهم أو تفسير ما يحدث خلف سورها العظيم قبل أن يخرج كمد جارف عمّ البشرية جمعاء. فمؤشر الابتكار العالمي Global Innovation Index الذي يصدر سنوياً عن منظمة الملكية الفكرية العالمية (المنضوية تحت مظلة الأمم المتحدة) يضع الصين في العام 2021 في الترتيب الثاني عشر، ولا يحتاج اي قارئ لوقت طويل قبل أن يلاحظ إجحاف أو قصور معايير هذا التصنيف عن اللحاق بحقيقة الابتكار في الصين، وهذا ما يدعونا نحن كلبنانيين وكعرب إلى التريث والتأمل قبل اعتناق التصنيفات العالمية النابعة من الغرب على أنها مسلّمات مقدّسة لا تقبل حتى النقاش.
وأنا كلبناني طامح لوضع بلادي على سكة الابتكار، فقد تسنى لي التعرّف إلى الكثير من التجارب في هذا المجال ومنها الصينية، ففي العام 2011 ترأست وفد الهيئة الوطنية للعلوم والبحوث من المبتكرين الشباب إلى معرض الاختراعات الدولي في الشرق الأوسط (وهو النسخة العربية من معرض جنيف العريق)، وللأمانة كانت تجربتنا الأولى كلبنانيين وربما الرائدة عالميًا، بإشراك مبتكرين ومخترعين شباب دون سن الثامنة عشر جنبًا إلى جنبٍ مع مبتكرين جامعيين أوصناعيين محترفين في معارض توجرة الابتكار أو تثميره، وهناك كان لقاؤنا الأول مع جمعية المخترعين في الصين. وفي العام التالي وما بعده صرت أرى المبتكرين والمخترعين الشباب من المدارس والثانويات الصينية يحتلون جناحًا كبيراً، أوقل الأكبر، في كل معرض للابتكار كنا نشارك فيه وذلك إلى جانب الشركات والمبتكرين الجامعيين والمحترفين. بالتأكيد شعرت بالغبطة أننا كلبنانيين كنّا ربما ملهمين لدولة عظمى مثل الصين بهذه الفكرة. هذه التجربة ساعدتني ربما في فهم التطور السريع الذي تعيشه الصين في العقد الأخير، فالبنية التحتية لبيئة الابتكار Innovation Ecosystem والبحث والتطوير تجعل من اغتنام اي فرصة قدرةً على تحوّلها بسرعة فائقة إلى مسار ينمو بثبات دون اهتزاز بحكم صلابة هذه البنية التحتية.
لقد شهدت مشاركاتنا الدولية اللاحقة لقاءات عدّة مع أصدقائنا الصينيين خلال مؤتمرات ومعارض الابتكار الدولية، وتُوجت في العام 2018 بمشاركتنا في معرض دولي للاختراعات في مدينة فوشان الصينية حيث تم عرض حوالي 500 ابتكار واختراع عالمي، بينما شارك من الصين وحدها أكثر من 4000 ابتكار، ومشاركتي في التحكيم أتاحت لي الفرصة للاطلاع على اندفاع الشباب الصيني لابتكار حلول لمشاكله (ومشاكل البشرية) في كل المجالات، وقد لاحظت أيضًا أنّ الدولة والقطاع العام لا تلعب دور الناظم والمحفز للابتكار فقط، بل تشكّل ايضاً المظلة لتمويل توجرته وتثميره وتحويله لمنتج في السوق، في تناقض مع عقيدة الابتكار الغربية القائمة على على هيمنة القطاع الخاص المصرفي ورأس المال المخاطر Venture Capital على كل قطاعات الابتكار. وفي هذا المجال أنا أنحاز لتجربة الصين وأدعو لبنان للاستفادة منها، فمثلاً أنفق مصرف لبنان أكثر من نصف مليار دولار على الابتكار واقتصاد المعرفة خلال ثلاث سنوات سبقت العام 2019، ولكنّها فشلت بكل أسف في الوصول لأي تثمير للابتكار.
واسمحوا لي أيضًا أن اوجز بعضاً من نظرتي لقطاع تكنولوجيا المعلومات والاتصالات في الصين، فهناك كل خدمات غوغل لا تعمل، بالإضافة إلى معظم تطبيقات التواصل الاجتماعي الغربية، مع استثناءات محدودة لبعض تطبيقات مايكروسوفت، ولكن شعوب الصين ومجالها الحيوي من الدول المحيطة تستخدم تطبيقات التواصل الاجتماعي إلى حد الإفراط وربما أكثر الغرب نفسه، ولكن التطبيقات الصينية منها وليس الغربية مثل WeChat & Baidu…، وهذا يؤشر إلى ريادة الصين في مجال السيادة على أصولها الرقمية من بيانات وشبكات وتجهيزات، وهو يدلّ أيضا على نقاط القوة الذاتية التي اعتمدتها لتسابق العالم في الجيل الخامس من الاتصالات، وفي مجال الحوسبة الغمامية Cloud حيث تنافس AliBaba Cloud حوسبة أمازون وغوغل AWS & GCP. وهذه التطبيقات التكنولوجية استطاعت وببساطة تقديم خدمات خيالية لهذه الشعوب أهم بكثير من تلك الغربية والأميركية تحديداً، وهذا نموذج نجاح قدّمته الصين بتحويل التهديد إلى فرصة للابتكار. ولولا العقوبات الغربية المفرطة التي تحول دون وصول بوابات Gateways الصين السريعة للانترنت من شرق آسيا إلى غربها، لكانت منطقتنا اليوم في مشهد مختلف من البنى التحتية الرقمية والتي، برأيي، ستأتي عاجلاً أم آجلاً ضمن مبادرة الحزام والطريق بشقها الرقمي. وهذه دعوة للاستفادة المبكرة من هذه المبادرة لتوفير الكثير من الجهد والمال في تسريع التحول الرقمي والحوكمة في قطاعات الأعمال الحكومية والخاصّة في منطقتنا.
آمل أن يكون عرضي لهذه النظرة في مجالي الابتكار والتكنولوجيا خلال العقد الأخير من خمسينية العلاقات اللبنانية الصينة، إسهاماً في فتح نافذةً نطلّ منها على شرق العالم لنكون في وضعية توازن على الاقل بين أُفُقَي المشرق والمغرب.
لمتابعة باقي أجزاء السلسلة : اضغط هنا