يحتاج لبنان اليوم إلى إطلاق مشاريع كبرى من أجل نهوضه وإعادة بناء وترميم وتطوير بناه التحية من مرافئ ومواصلات وإنتاج طاقة. وتتطلب هذه المشاريع قدرات مالية ومنتجات غير متوفرة اليوم في ظل الأزمة المالية والاقتصادية التي يعاني منها. كما يتطلب التعاون مع جهات تمتلك القدرات المالية والفنية والعلمية. وتقوم العلاقة معها على الجدية والندية. وتبدو الصين هي إحدى الجهات المرشحة كي يتعاون معها لبنان في هذا المجال لتحقيق أهدافه.
وسوف نحاول في ما يلي إلقاء الضوء على واقع الصين الحالي في مجال الصناعة والتكنولوجيا والطاقة والمواصلات وإنجاز المشاريع الكبرى. ونستشرف موقعها في ريادة التكنولوجيا في العالم من خلال التطور المطرد في العقود الماضية والسياسة والخطط الموضوعة لجعل الصين دولة قوية صناعيا وتكنولوجيا.
ويحضرني وأنا أكتب عن ذلك، تجاربي الأولى مع المنتجات الصينية في مجال المعلوماتية وخاصة في مجال الحواسب الشخصية. يومها بدأنا نجد انه بالإمكان الحصول على الحاسوب المنتج في الصين بكلفة قليلة مقارنة بتلك المنتجة في البلاد الغربية. وكان مرد ذلك الى أن سياسة الإنتاج المعتمدة في الصين هي السماح لفئات واسعة من الشعب الصيني بالقدرة على الحصول على الحاسوب الشخصي بكلفة متناسبة مع دخله. وقد سمح سوق الصين الواسع وتدني كلفة اليد العاملة بالإنتاج بكميات كبيرة، مما أدّى بطبيعة الحال الى انخفاض في الأسعار وزيادة في المبيعات، مما سمح أيضا بتحسين الإنتاج من حيث المواصفات والجودة، وجعلها قادرة على مضاهاة المنتجات الغربية.
إن هذه السياسة التي اعتمدتها وشجعتها قيادة البلاد أدت إلى ديموقراطية الإنتاج التي أتاحت للفئات محدودة الدخل الحصول على الحاسوب بكلفة معقولة. وقد ساهم ذلك في توسيع قاعدة المستخدمين الصينيين والعالميين للمعلوماتية وبالتالي تسريع انتشار الحاسوب الشخصي في العالم. وبذلك تكون سياسة الصين في هذا المجال قد لعبت دورا بارزا في تطور وانتشار المعلوماتية عالميا.
وكانت هذه السياسة مؤشرا على تصميم الصين الدخول بقوة في ما يسمى بالثورة الصناعية الرابعة، وهي ثورة تميزن بالتطور التكنولوجي العالي في مجالات مثل الذكاء الاصطناعي (AI) ، والبيانات الضخمة (Big Data) ، وشبكات اتصالات الجيل الخامس (5G) ، وتكنولوجيا النانو والتكنولوجيا الحيوية ، والروبوتات ، والإنترنت.
وقد أثبتت الصين أنها يمكن أن تكون رائدة على الصعيدين العالمي والمحلي، في العديد من مجالات الإنتاج والابتكار كالتصنيع والبحث والتطوير. ويسمح سوق الصين الواسع للشركات الصينية الكبيرة الخاصة والمملوكة للدولة بإمكانية الوصول التفضيلي إلى أكثر من مليار مستهلك في البلاد حيث يوجد ما يقرب من 800 مليون مستخدم للإنترنت، يمتلك معظمهم هواتف ذكية. كما أن خدمات الإنترنت اللاسلكية معممة على نطاق واسع.
وتسعى الصين جاهدة لتصبح رائدة في التكنولوجيا عالميا وذلك عبر استخدام السياسات التي تقودها الدولة مثل صنع في الصين 2025، أو الجيل الجديد من خطة تطوير الذكاء الاصطناعي. كما يتمثل أحد الأهداف في رفع المحتوى المحلي للمكونات والمواد الأساسية في التصنيع عالي التقنية إلى 70 في
المائة بحلول عام 2025. وتعتبر الصين اليوم من أكبر المستثمرين في مجال البحث والتطوير (العام والخاص) في العالم. وهي تحتل المرتبة الأولى عالميًا في طلبات براءات الاختراع بنسبة 40 في المائة من الإجمالي العالمي
ويشير البروفسور نوبهار شريفNaubahar Sharif من جامعة هونغ كونغ للعلوم والتكنولوجيا، في دراسة حديثة نشرت على موقع الجامعة إلى أن الصين تستعد لتصبح المنتج والمصدر الرائد للتكنولوجيا في العالم من خلال التقاء ثلاثة عوامل رئيسية – النمو المستمر للأسواق المحلية في الصين، وقدرة الحكومة غير المقيدة نسبيًا على سن سياسة صناعية تفضل ما تسميه “الابتكار المحلي”، والأنشطة المرتبطة بالعولمة مثل عمليات الدمج والاستحواذ وعمليات نقل رأس المال البشري والمعرفة والتقنيات عبر الحدود.
وتشير الدراسة إلى هناك أدلة قوية على أن الصين تعمل على تطوير قدراتها العلمية والتكنولوجية والابتكارية بوتيرة ستمكنها من أن تصبح رائدة التكنولوجيا العالمية في العقود القادمة استنادا إلى
أربعة معايير مفيدة لتقييم القيادة التكنولوجية وتشمل: كثافة البحث والتطوير، وعدد موظفي البحث والتطوير، وعدد المنشورات العلمية، وعدد طلبات براءات الاختراع. وقد بات كل هذا متوفرا في الصين.
ولابد من الإشارة إلى أن الشراكات مع الشركات الأجنبية تولد تداعيات تكنولوجية غير مباشرة تعود بالنفع على الشركات الصينية وتسريع الابتكار وتطوير التكنولوجيا العالية. وقد خصصت الصين في السنوات الأخيرة ما يقرب من 2٪ من ناتجها المحلي الإجمالي لأنشطة البحث والتطوير، وأصبحت بالفعل ثاني أكبر موصل في العالم للبحث والتطوير، مع نمو في كثافة البحث والتطوير بحوالي 20 في المائة سنويًا.
واستهدفت الحكومة الصينية أيضًا الاستثمار والترويج لمجموعة من “التقنيات الاستراتيجية الناشئة” التي تشمل التكنولوجيا البيئية، والمعلومات والاتصالات، والتكنولوجيا الحيوية، والتصنيع المتقدم، والطاقة المتجددة، والمواد المتقدمة، والتكنولوجيا النووية، والمركبات الخضراء. ولتعزيز هذه الصناعات، ستنشر الصين منحًا حكومية واسعة النطاق، وامتيازات ضريبية، وتسريع الوصول إلى القروض المصرفية، وغيرها من السياسات الداعمة. كما أن هناك عاملا يمنح الصين ميزة تنافسية في طريقها إلى الريادة التكنولوجية العالمية وهو العولمة، التي تزود الاقتصاد الصيني بقنوات متعددة لاكتساب التقنيات المتقدمة. في حين أن هذا ينطوي على قدر لا بأس به من أنشطة الاندماج والاستحواذ التي تندمج فيها الشركات الصينية مع الشركات الأجنبية أو تستحوذ عليها، فإن الكثير من التكنولوجيا الجديدة تأتي إلى الصين من خلال عمليات الاستحواذ والشراكات مع منظمات التكنولوجيا والبحث والتطوير داخل الشركات الكبرى.
وتسعى الصين اليوم إلى الانطلاق نحو التعاون الاقتصادي والإنمائي الواسع مع العديد من دول العالم، مقدمة عروضا سخية منافسة لأية عروض أخرى من دول أخرى. وهي إذ تقدم منتجات متطورة عالية الجودة، ومشاريع تنموية وبنى تحتية فإنها تقدم في الوقت نفسه تسهيلات مثل ال BOT وغيرها.
وفي خمسينية العلاقات اللبنانية-الصينية نرى أن من مصلحة لبنان تطوير علاقات التعاون الاقتصادي مع الصين والاستفادة من العروض التي تقدمها في هذا المجال على قاعدة أن المعادلة هي اليوم: الصين المتقدمة والصاعدة صناعيا وتكنولوجيا تحتاج لتوسيع أسواقها من خلال التعاون البناء مع الدول الأخرى، ولبنان المتعثر اقتصاديا وماليا يحتاج إلى تجديد بناه التحتية وتطوير موارد انتاجه من خلال من يمتلك التكنولوجيا وهو مستعد لدعم التمويل لديه. وبذلك فإن التعاون إذا ما تحقق سوف يكون على قاعدة رابح-رابح.
لمتابعة باقي أجزاء السلسلة : اضغط هنا