ألقى المفكر والباحث في الفلسفة السياسية ورئيس مركز دلتا للأبحاث المعمّقة- لبنان، د. محمود حيدر كلمة في دورة حكاية الديمقراطية والتنمية التي نظمتها دائرة العلاقات الخارجية في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني يوم الثلاثاء 15 آذار الحالي.

قد يكون السؤال عن مكانة الحزب الشيوعي الصيني في العصر الجديد، من أبرز وأهم الأسئلة التي تشغل المفكِّرين وعلماء الاجتماع على نطاق عالمي. لكن أهمية هذا السؤال وضرورة الإجابة عليه لا تنحصر فقط في المنجزات التنموية الكبرى التي حققتها الصين تحت قيادته، وإنما أيضاً وأساساً في الجدل الفكري الذي أطلقته تجربة الحزب في عالم بلغت فيه الثقافة الرأسمالية النيوليبرالية حدودها القصوى في الإنتشار والسيطرة.

الابتكار والإبداع سمتان اختُصَّ بهما الحزب الشيوعي ليطلق ما يمكن ان نسميه “مرآة النموذج الصيني للعالمية الجديدة”. ومن البيِّن القول أن ابتكار ما هو جديد ومستحدث في عالم التقنية، هو حصيلة القدرة على التطبيق المبدع للأفكار، وتطويع مفاهيم الحداثة، وإعادة إنتاجها على نحو يطابق خصوصيات البيئة الحضارية الصينية.

من خلال التراكم المعرفي الدؤوب استطاعت الأمة الصينية تحت قيادة الحزب أن تجمع على نحو دقيق بين المفارقات والأضداد. لم يقطع الصينيّون مع ميراثهم الممتد في التاريخ القديم. وفي الوقت نفسه، أفلحوا في التواصل مع منجزات الحداثة ومواكبة روح العصر. هذا ما لم يحدث في المنعطف التاريخي الذي سلكته الحداثة في غرب أوروبا بدءاً من القرن السابع عشر وصولاً إلى مرحلة ما بعد الحداثة. لقد حصلت قطيعة شبه مطلقة وبصورة تراجيدية بين الحداثة والتراث الَّلاهوتي المسيحي تحت مدَّعى التنوير وتشييد حضارة العقل. ميزة الصين أنّها شقّت مسارها الحضاري على مبدأ وحدة القديم والحديث، وعلى قاعدة الانسجام والتناغم بين كل العناصر المكوِّنة لروح الأمّة وتاريخها. ومن يقرأ التراث الصيني المكتوب قديماً وحديثاً سوف يجد ذلك بوضوح. أعطي هنا مثلاً من الفترة المعاصرة: فقد دأب عدد من المفكّرين الصينيّين إلى إجراء دراسات مقارنة مع عدد من الحضارات وبالأخص مع اليونانيّين القدامى والأوروبيّين المعاصرين. وجد هؤلاء أن اليونانيّين اهتموا بوظائف الفكر والعقل التي أفضت إلى الحكمة الواقعيّة في سياق الفلسفة العقلانيّة وثقافة المنطق. أمّا الأوروبيّون في عصور الحداثة فقد ورثوا عن أسلافهم العقلانيّة، لكنّهم سيوظفونها في خدمة نزعاتهم القوميّة إلى الحد الذي سوَّغوا فيه السيطرة على الآخر وصولاً إلى تبرير التمدد الأمبريالي والاحتلال والحروب المفتوحة. ولم تكن الحروب الاستعماريّة التي مارستها أوروبا على امتداد القرون الثلاثة الماضية (الثامن عشر والتاسع عشر والعشرين) سوى دليل على عقلانيّة حادّة جرى توظيفها لمصلحة ما يسمى بالمركزية الحضارية للغرب.

الصينيّون، كان لهم مسارهم المعاكس لمَّا جمعوا بين عالَمَيْ الإنسان: المعنوي والمادي. ولقد اهتمّوا بالفهم الدقيق للطبيعة وضرورة تغيير الواقع التاريخي معاً. وتبعاً لهذا الطريق، توصّلوا إلى قاعدة حياة مثلثة الأضلاع: حكمة الواقع، وحكمة الراحة، وحكمة المساواة. ومن بعد ذلك قاموا بتطوير ثقافة البراعة والطبيعيّة، محاولين بشكل أساسي تحجيم الوهم والعودة إلى الصدق. ونتيجة لذلك تجسّدت حياتهم الوطنيّة في ثلاث شخصيّات تاريخيّة رائدة منحت شعب الصين أبعاداً روحيّة وحضاريّة وثقافيّة عظيمة، هي لاو تسو، وكونفوشيوس، وماوتسي تونغ.

لعلّ الأمر المهم في هذا المجال هو أن التقليد الصيني الحديث ومن خلال الحضور التاريخي الوازن للحزب لا يمكن أن يُفهم على حقيقته إلا في إطار فهم هذا الحضور بوصف كونه ترجمة لفلسفة سياسية من طراز جديد. ولقد استطاع الحزب الشيوعي الصيني أن يرسم للصين منهجاً حيوياً له جاذبيته المخصوصة من جهة، للمركزية الغربية. ولو نحن نظرنا إلى التجربة الصينية في العلاقات الدولية، لوجدنا انها تجربة قامت على التكافؤ الدقيق بين حفظ الإستقلال والإكتفاء الذاتي وعلى الإقرار للآخر الحضاري بغيريّته واحترام هذه الغيريّة. وهذا حاصل فلسفة سياسية فريدة من أهم مكوناتها التناغم مع الغير من دون غلبة أو قهرية، وإيجاد تكافؤ وتوازن في العلاقات الدوليّة، وتحديداً بين الشرق والغرب. وما من ريب أن هذه القضية تشكل منطقة جاذبية في العلاقة بين الدائرتين العربية والصينية في تفعيل الغيرية البنَّاءة وثقافة الاختلاف. وعليه فإن ما تختزنه النخب العربية من إمكانات خلاَّقة في الفعل التواصلي مع الحضارات العالمية، سوف يكون لها منفسحٌ رحبٌ. ذلك بأن الفعل التواصلي مع المدى الشرقي يعزِّزه المشترك القاري الآسيوي بما ينطوي عليه من أبعاد روحية وإنسانية وحضارية ولما كان لبنان كوجود محوري في بلاد الشام يشكل نقطة لقاء لحضارات الشرق والغرب، فإن العلاقة مع الصين كروح محوري في آسيا إنما يشكل تناغماً وتكاملاً حضارياً لا بد لمثيله ان يسود في عالمنا المعاصر.

لا بدّ أن أضيف هنا، أن الثقافة التاريخيّة الصينيّة -كما سبق وأشرت- هي في العمق ثقافة حوار وتسامح مع الحضارات الأخرى. الشيء اللّافت في تاريخ الصين إنّها لم تكن يوماً أمّة استعماريّة ذات أطماع بالأمم الأخرى. لم تطمح للاستيلاء على ثروات الغير. بل كل ما سعت إليه إنّها كانت ترد الغزاة وتقاوم المستعمرين لنيل استقلالها ووحدتها وكرامة شعبها.

دعوتي في المنتهى، موجهة إلى النخب الصينية واللبنانية والعربية لتفعيل وتعزيز صلات التواصل وإبرام بروتوكولات التعاون ليس فقط على صعيد التنمية والاستثمار الاقتصادي والتجاري، وإنما أيضاً وأساساً في ميدان البحث العلمي، وحلقات التفكير، وإنتاج المفاهيم ووضع الإستراتيجيات المعرفية المتناسبة مع مقتضيات العالم الجديد.

ما من شكٍ أن الصداقات الحقَّة والدائمة تكتسب حقَّانيتها وديمومتها من مشتركها الحضاري ووحدتها الروحية. ونحن العرب حين نتطلَّع إلى صداقات حقيقية وراسخة، ينبغي أن ننظر في ما يتعدى حسابات ومعايير المنفعة العابرة، وإنما التعرُّف إلى ماهية هذا الصديق ومدى صدقيتَه، ومعرفة ما يختزنه من قيم. وهذا هو الأمر الذي ينبغي أن يشكل محور تفكير النخب في لبنان والعالم العربي حيال أمة عريقة ومقتدرة كالأمة الصينية.